فصار يحسدني من كنت أحسده * وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي تركت للناس دنياهم ودينهم * شغلا بذكرك يا ديني ودنيائي فصل تحقق رؤية الله في الآخرة ولذة لقائه إعلم أن معرفة الله إذا حصلت في الدنيا لم تكن خالية عن كدرة ما كما أشير إليه، إلا أنه إذا اكتسب أصلها في الدنيا فيزيدها في الآخرة انكشافا وجلاء بقدر صفاء القلوب وزكائها وتجردها عن العلائق الدنيوية، إلى أن يصير أجلى وأظهر من المشاهدة بمراتب، فالاختلاف بين ما يحصل في الدنيا من المعرفة وما يحصل في الآخرة من مشاهدة ولقاء إنما هو بزيادة الانكشاف وجلاء.
مثال ذلك: إن من رأى إنسانا، ثم غض بصره، وجد صورته حاضرة في خياله كأنه ينظر إليها، ولكن إذا فتح العين وأبصر، أدرك تفرقة بين حالتي غض العين وفتحها، ولا ترجع التفرقة إلى اختلاف بين بين الصورتين لاتحادهما، بل الافتراق إنما هو بمزيد الكشف والوضوح، فالصورة المتخيلة صارت بالرؤيا أتم انكشافا، فإذا الخيال أول الإدراك، والرؤيا استكمال لإدراك الخيال، وهي غاية الكشف، لا لأنها في العين، بل لو خلق الله هذا الإدراك الكامل المتجلي في الصدر أو الجهة أو أي عضو فرض، استحق أن يسمى رؤية. وإذا فهمت هذا في المتخيلات - أي المدركات التي تدخل في الخيال من الصور والأجسام - فقس عليه الحال في المعلومات - أي ما يدرك بالعقل -، ولا يدخل في الخيال كذات الباري وكل ما ليس بجسم، كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها، فإن لمعرفتها وإدراكها أيضا درجتين: إحداهما: أولى، والثانية: استكمال لها، وبينهما من التفاوت في مزيد الكشف والايضاح ما بين المتخيل والمرئي، فتسمى الثانية بالإضافة إلى الأولى لقاء ومشاهدة ورؤية، وهذه التسمية حق، لأن الرؤية سميت رؤية لأنها غاية الكشف، وكما أن سنة الله جارية بأن تطبق الأجفان يمنع من تمام الكشف الذي هو الرؤية في المتخيلات، فكذلك سنته أن النفس ما دامت محجوبة بالبدن وعوارضه وشهواته، لم يحصل لها تمام