وإصلاح الملائكة بعضهم ببعض إلى أن ينتهي إلى حضرة الربوبية، التي هي ينبوع كل نظام، ومطلع كل حسن وجمال، ومنشأ كل ترتيب وتأليف وقد ظهر مما ذكر: إن من فتش يعلم أن رغيفا واحدا لا يستدير بحيث يصلح للأكل ما لم يعمل عليه آلاف ألوف من الملائكة وصناع الإنس.
فصل تسخير الله التجار لجلب الطعام ثم جميع الأطعمة لما لم يمكن أن يوجد في كل مكان وبلد، إذ لكل واحد شروط مخصوصة لأجلها، لا يمكن إلا أن يوجد في بعض الأماكن دون بعض، والناس منتشرون على وجه الأرض، وقد يبعد عنهم بعض ما يحتاجون إليه من الأطعمة، بحيث تحول بينهم وبينها البراري والبحار، فسخر الله - تعالى - التجار، وسلط عليهم حرص المال وشره الربح حتى يقاسوا الشدائد، ويركبوا الأخطار في قطع المفاوز وركوب البحار فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق.
فانظر كيف علمهم الله صناعة السفن وكيفية الركوب فيها، وكيف خلق الحيوانات وسخرها للحمل والركوب في البوادي والجبال من الجمال وكيفية قطعها البراري والمراحل تحت الأعباء الثقيلة وصبرها على الجوع والعطش، ومن الخيل وكيفية سرعته سيرها وحركتها، ومن الحمار وصبره على التعب وانظر كيف خلق الله ما يحتاج إليه السفن وهذه الحيوانات من الأسباب والغذاء، وينتهي إلى حد لا يمكن تحديده.
فصل نعم الله في خلق الملائكة للانسان ثم مجرد وجود الغذاء وحضوره وإصلاحه لا يفيد فائدة ما لم يؤكل ويصير جزء للبدن. وهذا موقوف على أعمال كثيرة، محتاجة إلى أسباب كثيرة، من الطحن، والجذب، والهضم المعدي والكبدي، وغير ذلك من الأفعال التي يحتاج كل منه إلى أسباب كثيرة. وقد أشرنا إلى لمعة من كيفية ذلك في باب التفكر، فرجع إليه. وهنا تشير إلى أنموذج من نعمة الله في خلق الملائكة. فنقول: