دون البعض لا تصح مطلقا، واستدل على ذلك بأن التوبة عبارة عن الندم وإنما يندم على السرقة - مثلا - لكونها معصية لا لكونها سرقة، ولا يعقل أن يندم عليها دون الزنا أن كان توجعه لأجل المعصية، إذ العلة شاملة لهما، لأن من يتوجع على قتل ولده بالسيف يتوجع على قتله بالسكين، لأن التوجع إنما هو بفوات المحبوب، سواء كان بالسيف أو بالسكين، وكذلك توجع التائب إنما هو لفوات المحبوب بالمعصية. سواء عصى بالسرقة أو بالزنى، وجوابه قد ظهر مما ذكرناه.
فصل أقسام التائبين التائبون بين من سكنت نفسه عن الشروع إلى الذنوب فلا يحوم حومها وبين من بقي في نفسه الشروع إليها والرغبة فيها وهو يجاهدها ويمنعها.
والأول بين من سكون النزوع وبطلانه فيه لأجل قوة اليقين وصدق المجاهدة، ومن سكونه وانقطاعه بفتور في نفس الشهوة فقط: والأول من الأول أفضل من الثاني، والثاني منه أدون من الثاني، والوجه ظاهر. وأيضا التائبون بين من نسي الذنب من دون اشتغال بالتفكر فيه، وبين من جعله نصب عينيه ولا يزال يتفكر فيه ويحترق ندما عليه. ولا ريب في أن التذكر والاحتراق بالنظر إلى المبتدي ومن يخاف عليه العود أفضل، لأنه يصده عنه، والنسيان بالنظر إلى المنتهى السالك والواصل إلى مرتبة الحب والأنس الواثق من نفسه أنه لا يعود أفضل، لأنه شغل مانع عن سلوك الطريق، وحاجب من الحضور بلا فائدة ولا ينافيه بكاء الأنبياء وتناجيهم من الذنوب، لأنهم قد ينزلون في أقوالهم وأفعالهم إلى الدرجات اللائقة بالأمة، فإنهم بعثوا لإرشادهم فعليهم التلبس بما تنتفع الأمة بمشاهدته، وأن كان نازلا عن ذروة مقامهم. ولذا قال رسول الله (ص): (أما إني لا أنسى، ولكن أنسى لأشرع) (19). ولا تعجب من هذا، فإن الأمم في كنف شفقة الأنبياء كالصبيان في كنف شفقة الآباء، وكالمواشي في كنف الرعاة، والأب إذا أراد