إليها، لأنها رعايا خادمة لها في التجارة ولا يتم أعمالها هذه التجارة إلا بها، فيوصيها بحفظ هذه الأعضاء عن المعاصي التي تصدر عنها، وبأعمال كل منها فيما خلق لأجله، ثم يوصيها بالاشتغال بوظائف الطاعات التي تتكرر عليه في اليوم والليلة، وبالنوافل والخيرات التي تقدر عليها، وهذه شروط يفتقر إليها كل يوم، لكن إذا اعتادت النفس بتكرار المشارطة والمراقبة بالعمل بها والوفاء بحقها استغنى عن المشارطة فيها، وإن اعتادت بالعمل في بعضها لم تكن حاجة إلى المشارطة فيه، وبقيت الحاجة إليها في الباقي، وكل من يشتغل بشئ من أعمال الدنيا: من ولاية أو تجارة أو تدريس، أو أمثال ذلك: لا يخلو كل يوم منه من مهم جديد، وواقعة حادثة لها حكم جديد، ولله عليه فيها حق، فعليه أن يجدد الاشتراط على نفسه بالاستقامة عليها والانقياد للحق في مجاريها، وينبغي أن يوصلها بالتدبر في عاقبة كل أمر يرتكبه في هذا اليوم والليلة.
وهذه الوصية عمدت الوصايا ورأسها، وقد روي: (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وقال: يا رسول الله أوصني، فقال له: فهل أنت مستوص إن أنا أوصيتك؟ - حتى قال له ذلك ثلاثا، وفي كلها يقول الرجل نعم يا رسول الله! فقال له رسول الله (ص): إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فإن يك راشدا فامضه وإن يك غيا فانته). ويظهر من هذا الخبر: إن التأمل في عاقبة كل أمر أعظم ما يحصل به النجاة، فينبغي أن يؤكد العهد والميثاق في ذلك على النفس ويحذرها عن الإهمال، ويعضها كما يوعظ العبد المتمرد الآبق، فإن النفس بالطبع متمردة عن الطاعات، مستعصية عن العبودية ولكن الوعظ والتأديب يؤثر فيها (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) فهذا وما يجري مجراه هو المشارطة، وهو أول مقامات المرابطة.
وثانيها (المراقبة): وهو أن يراقب نفسه عند الخوض في الأعمال، فيلاحظها بالعين الكالئة، فإنها إن تركت طغت وفسدت، ثم يراقب في كل حركة وسكون، بأن يعلم أن الله تعالى مطلع على الضمائر، عالم بالسرائر، رقيب على أعمال العباد، قائم على كل نفس بما كسبت، وأن سر القلب في حقه مكشوف، كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف، بل أشد من ذلك، قال الله سبحانه: