ليس مقصورا على مدركات البصر، ولا على تناسب الخلقة، إذ يقال: هذا صوت حسن، وهذا طعم حسن، وهذا ريح طيب، وليس شئ من هذه الصفات مدركة بالبصر، وكذا ليس الحسن والجمال مقصورا على مدركات الحواس لوجودهما في غيرها، فإن أكثر خصال الخير يدرك بالعقل بنور البصيرة الباطنة، إذ يقال: هذا خلق حسن، وهذا علم حسن. وهذه سيرة حسنة، ولا يدرك شئ من هذه الصفاة بالحواس، بل يدرك بالبصيرة الباطنة، وكل هذه الخصال المدركة حسنها بالعقل محبوبة بالطبع، والموصوف بها أيضا محبوب عند من عرف صفاته.
ومما يدل على تحقق الجمال المدرك بالعقل وكونه محبوبا: أن الطباع السليمة مجبولة على حب الأنبياء والأئمة - عليهم السلام - مع أنهم لم يشاهدوهم، حتى أن الرجل قد تجاوز حبه لصاحبه مذهبه حد العشق، فيحمله ذلك على أن ينفق جميع أمواله في نصرة مذهبه والذب عنه، ويخاطر بروحه في قتال من يطعن في أمامه أو متبوعه، مع أنه لم يشاهد قط صورته ولم يسمع كلامه، فما حمله على الحب هو استحسانه بصفاتها الباطنة: من الورع، والتقوى، والتوكل، والرضا، وغزارة العلم، والإحاطة لمدارك الدين، وانتهاضه لإفاضة علم الشرع، ونشره هذه الخيرات في العالم، وجملتها ترجع إلى العلم والقدرة، إذ جميع الفضائل لا تخرج عن معرفة حقائق الأمور والقدرة على حمل نفسه عليها بقهر الشهوات، وهما - أعني العلم والقدرة - غير مدركين بالحواس، مع أنهما محبوبان بالطبع. ومن الشواهد على المطلوب: أن الناس لما وصفوا (حاتما) بالسخاء و (أنوشيروان) بالعدالة، أحبتهما القلوب حبا ضروريا، من دون نظرهم إلى صورهما المحسوسة، ومن غير حظ ينالونه منهما، بل كل من حكي عنه بعض خصال الخير وصفات الكمال غلب على القلوب حبه، مع عدم مشاهدته ويأس المحبين من انتشار خيره وإحسانه إليهم، ومن كانت بصيرته الباطنة أقوى من حواسه الظاهرة، ونور العقل أغلب عليه من آثار الحواس الحيوانية، كان حبه للمعاني الباطنة أكثر من حبه للمعاني الظاهرة، فشتان بين من يحب نقشا على الحائط لجمال صورته الظاهرة، وبين من يحب سيد الرسل (ص) لجمال صورته