دونه في العمل لتقر عينه وتطيب نفسه بشرط أن يكونوا مؤمنين، فيختص ذلك بمن يتصف بالإيمان من الذرية وهم البالغون دون الصغار، فإنهم وإن كانوا لاحقين بآبائهم فبدليل آخر غير هذه الآية. وقيل إن الذرية تطلق على الكبار والصغار كما هو المعنى اللغوي، فيلحق بالآباء المؤمنين صغار ذريتهم وكبارهم، ويكون قوله:
بإيمان في محل نصب على الحال: أي بإيمان من الآباء. وقيل إن الضمير في بهم راجع إلى الذرية المذكورة أولا:
أي ألحقنا بالذرية المتبعة لآبائهم بإيمان ذريتهم. وقيل المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار فقط، وظاهر الآية العموم، ولا يوجب تخصيصها بالمهاجرين والأنصار كونهم السبب في نزولها إن صح ذلك، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (وما ألتناهم من عملهم من شئ) قرأ الجمهور بفتح اللام من " ألتنا " وقرأ ابن كثير بكسرها: أي وما نقصنا الآباء بإلحاق ذريتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئا، فضمير المفعول عائد إلى الذين آمنوا.
وقيل المعنى: وما نقصنا الذرية من أعمالهم شيئا لقصر أعمارهم، والأول أولى، وقد قدمنا تحقيق معنى لاته وألاته في سورة الحجرات. وقرأ ابن هرمز " آلتناهم " بالمد، وهو لغة. قال في الصحاح: يقال ما آلته من عمله شيئا أي ما نقصه (كل امرئ بما كسب رهين) رهين بمعنى مرهون، والظاهر أنه عام، وأن كل إنسان مرتهن بعمله، فإن قام به على الوجه الذي أمره الله به فكه وإلا أهلكه. وقيل هو بمعنى راهن، والمعنى: كل امرئ بما كسب دائم ثابت. وقيل هذا خاص بالكفار لقوله - كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين - ثم ذكر سبحانه ما أمدهم به من الخير فقال (وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون) أي زدناهم على ما كان لهم من النعيم بفاكهة متنوعة، ولحم من أنواع اللحمان مما تشتهيه أنفسهم ويستطيبونه (يتنازعون فيها كأسا) أي يتعاطون ويتناولون كأسا، والكأس إناء الخمر، ويطلق على كل إناء مملوء من خمر أو غيره، فإذا فرغ لم يسم كأسا (لا لغو فيها ولا تأثيم) قال الزجاج: لا يجرى بينهم ما يلغى ولا ما فيه إثم كما يجرى بين من يشرب الخمر في الدنيا، والتأثيم تفعيل من الإثم، والضمير في " فيها " راجع إلى الكأس، وقيل لا لغو فيها: أي في الجنة ولا يجري فيها ما فيه إثم والأول أولى. قال ابن قتيبة: لا تذهب بعقولهم فيلغوا كما يكون من خمر الدنيا، ولا يكون منهم ما يؤثمهم. وقال الضحاك: لا تأثيم: أي لا كذب قرأ الجمهور " لا لغو فيها ولا تأثيم " بالرفع والتنوين فيهما. وقرأ ابن كثير وابن محيصن بفتحهما من غير تنوين. قال قتادة: اللغو الباطل. وقال مقاتل بن حيان: لا فضول فيها. وقال سعيد بن المسيب: لا رفث فيها. وقال ابن زيد: لا سباب ولا تخاصم فيها. والجملة في محل نصب على الحال صفة لكأسا (ويطوف عليهم غلمان لهم) أي يطوف عليهم بالكأس والفواكه والطعام وغير ذلك مماليك لهم، وقيل أولادهم (كأنهم) في الحسن والبهاء (لؤلؤ مكنون) أي مستور مصون في الصدف لم تمسه الأيدي. قال الكسائي: كننت الشئ: سترته وصنته من الشمس، وأكننته: جعلته في الكن، ومنه كننت الجارية، وأكننتها فهي مكنونة (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) أي يسأل بعضهم بعضا في الجنة عن حاله، وما كان فيه من تعب الدنيا وخوف العاقبة، فيحملون الله الذي أذهب عنهم الحزن والخوف والهم، وما كانوا فيه من الكد والنكد بطلب المعاش وتحصيل ما لا بد منه من الرزق. وقيل يقول بعضهم لبعض: بم صرتم في هذه المنزلة الرفيعة؟ وقيل إن التساؤل بينهم عند البعث من القبور. والأول أولى لدلالة السياق على أنهم قد صاروا في الجنة، وجملة (قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا قال بعضهم لبعض عند التساؤل؟ فقيل: قالوا إنا كنا قبل: أي قبل الآخرة، وذلك في الدنيا في أهلنا خائفين وجلين من عذاب الله، أو كنا خائفين من عصيان الله (فمن الله علينا) بالمغفرة والرحمة أو بالتوفيق لطاعته (ووقانا عذاب السموم) يعنى عذاب جهنم، والسموم من أسماء جهنم كذا قال الحسن ومقاتل. وقال الكلبي وأبو عبيدة: هو عذاب النار.