مع الكافرين) نهاه عن الكون مع الكافرين: أي خارج السفينة، ويمكن أن يراد بالكون معهم الكون على دينهم، ثم حكى الله سبحانه ما أجاب به ابن نوح على أبيه فقال (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) أي يمنعني بارتفاعه من وصول الماء إلي، فأجاب عنه نوح بقوله (لا عاصم اليوم من أمر الله) أي لا مانع فإنه يوم قد حق فيه العذاب وجف القلم بما هو كائن فيه، نفى جنس العاصم فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجا أوليا، وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره. والاستثناء قال الزجاج: هو منقطع:
أي لكن من رحمه الله فهو يعصمه، فيكون (من رحم) في موضع نصب، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا على أن يكون عاصم بمعنى معصوم: أي لا معصوم اليوم من أمر الله إلا من رحمه الله: مثل - ماء دافق - وعيشة راضية - ومنه قول الشاعر:
دع المكارم لا تنهض لبغيتها * واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي أي المطعم المكسو، واختار هذا الوجه ابن جرير، وقيل العاصم بمعنى ذي العصمة، كلابن وتامر، والتقدير:
لا عاصم قط إلا مكان من رحم الله وهو السفينة، وحينئذ فلا يرد ما يقال: إن معنى من رحم من رحمه الله، ومن رحمه الله هو معصوم، فكيف يصح استثناؤه عن العاصم؟ لأن في كل وجه من هذه الوجوه دفعا للإشكال.
وقرئ (إلا من رحم) على البناء للمفعول (وحال بينهما الموج) أي حال بين نوح وابنه فتعذر خلاصه من الغرق، وقيل بين ابن نوح وبين الجبل، والأول أولى، لأن تفرع (فكان من المغرقين) عليه يدل على الأول لا على الثاني، لأن الجبل ليس بعاصم. قوله (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) يقال: بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع، وبلع يبلع مثل حمد يحمد لغتان حكاهما الكسائي والفراء: والبلع الشرب، ومنه البالوعة، وهي الموضع الذي يشرب الماء، والازدراد، يقال: بلع ما في فمه من الطعام إذا ازدرده، واستعير البلع الذي هو من فعل الحيوان للنشف دلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد الكائن على سبيل التدريج (ويا سماء أقلعي) الإقلاع الإمساك، يقال أقلع المطر إذا انقطع. والمعنى: أمر السماء بإمساك الماء عن الإرسال، وقدم نداء الأرض على السماء لكون ابتداء الطوفان منها (وغيض الماء) أي نقص، يقال غاض الماء وغضته أنا (وقضى الأمر) أي أحكم وفرغ منه:
يعني أهلك الله قوم نوح على تمام وإحكام (واستوت على الجودي) أي استقرت السفينة على الجبل المعروف بالجودي، وهو جبل بقرب الموصل، وقيل إن الجودي اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل:
سبحانه ثم سبحانا نعوذ به * وقبلنا سبح الجودي والجمد ويقال إنه من جبال الجنة فلذا استوت عليه (وقيل بعدا للقوم الظالمين) القائل هو الله سبحانه ليناسب صدر الآية، وقيل هو نوح وأصحابه. والمعنى: وقيل هلاكا للقوم الظالمين، وهو من الكلمات التي تختص بدعاء السوء ووصفهم بالظلم للإشعار بأنه علة الهلاك، وللإيماء إلى قوله - ولا تخاطبني في الذين ظلموا -. وقد أطبق علماء البلاغة على أن هذه الآية الشريفة بالغة من الفصاحة والبلاغة إلى محل يتقاصر عنه الوصف، وتضعف عن الإتيان بما يقاربه قدرة القادرين على فنون البلاغة، الثابتين الأقدام في علم البيان، الراسخين في علم اللغة، المطلعين على ما هو مدون من خطب مصاقع خطباء العرب وأشعار بواقع شعرائهم، المرتاضين بدقائق علوم العربية وأسرارها.
وقد تعرض لبيان بعض ما اشتملت عليه من ذلك جماعة منهم فأطالوا وأطابوا، رحمنا الله وإياهم برحمته الواسعة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (فعلي إجرامي) قال عملي (وأنا برئ مما تجرمون) أي مما تعملون.