يقول لهم بهذه المقالة عقب أمره بأن يقول لهم بالمقالة السابقة، قيل ووجه ذلك أن ما تضمنه القول الأول إشارة إلى أصول الدين، وهذا إلى فروعها. والمراد بالصلاة جنسها فيدخل فيه جميع أنواعها، وقيل المراد بها هنا صلاة الليل، وقيل صلاة العيد. والنسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة كذا قال مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وغيرهم: أي ذبيحتي في الحج والعمرة. وقال الحسن: ديني. وقال الزجاج: عبادتي من قولهم: نسك فلان هو ناسك: إذا تعبد، وبه قال جماعة من أهل العلم (ومحياي ومماتي) أي ما أعمله في حياتي ومماتي من أعمال الخير، ومن أعمال الخير في الممات الوصية بالصدقات وأنواع القربات، وقيل نفس الحياة ونفس الموت (لله) قرأ الحسن نسكي بسكون السين. وقرأ الباقون بضمها. وقرأ أهل المدينة محياي بسكون الياء. وقرأ الباقون بفتحها لئلا يجتمع ساكنان قال النحاس: لم يجزه، أي السكون أحد من النحويين إلا يونس، وإنما أجازه لأن المدة التي في الألف تقوم مقام الحركة. وقرأ ابن إسحاق وعيسى بن عمرو عاصم الجحدري محيى من غير ألف وهي لغة عليا مضر، ومنه قول الشاعر:
سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم * فتخرموا ولكل جنب مصرع (لله رب العالمين) أي خالصا له لا شريك له فيه، والإشارة (بذلك) إلى ما أفاده (لله رب العالمين لا شريك له) من الإخلاص في الطاعة وجعلها لله وحده. قوله (وأنا أول المسلمين) أي أول مسلمي أمته، وقيل أول المسلمين أجمعين، لأنه وإن كان متأخرا في الرسالة فهو أولهم في الخلق، ومنه قوله تعالى - وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح - الآية، والأول أولى. قال ابن جرير الطبري: استدل بهذه الآية الشافعي على مشروعية افتتاح الصلاة بهذا الذكر، فإن الله أمر به نبيه وأنزله في كتابه، ثم ذكر حديث علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين " إلى قوله - وأنا أول المسلمين - قلت هذا هو في صحيح مسلم مطولا، وهو أحد التوجهات الواردة، ولكنه مقيد بصلاة الليل كما في الروايات الصحيحة، وأصح التوجهات الذي كان يلازمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويرشد إليه هو " اللهم باعد بيني وبين خطاياي " إلى آخره، وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى بمالا يحتاج إلى زيادة عليه هنا.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله (إن صلاتي) قال: يعني المفروضة (ونسكي) يعني الحج. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير (ونسكي) قال: ذبيحتي. وأخرجا أيضا عن قتادة (إن صلاتي ونسكي) قال: حجي وذبيحتي. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله (ونسكي) قال: ذبيحتي في الحج والعمرة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله. (ونكسي) قال: ضحيتي. وفي قوله (وأنا أول المسلمين) قال: من هذه الأمة. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملته، وقولي إن صلاتي إلي وأنا أول المسلمين، قلت يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة، فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة؟ قال: لا بل للمسلمين عامة ".