الظالمين بعضا) والمعنى: نجعل بعضهم يتولى البعض فيكونون أولياء لبعضهم بعضا، ثم يتبرأ بعضهم من البعض، فمعنى نولي على هذا: نجعله وليا له. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: معناه نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس.
وروى عنه أيضا أنه فسر هذه الآية بأن المعنى: نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله، فيكون في الآية على هذا تهديد للظلمة بأن من لم يمتنع من ظلمه منهم سلط الله عليه ظالما آخر. وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف وانظر متعجبا، وقيل معنى نولي: نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر، والباء في (بما كانوا يكسبون) للسببية: أي بسبب كسبهم للذنوب ولينا بعضهم بعضا. قوله (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) أي يوم نحشرهم نقول لهم (ألم يأتكم) أو هو شروع في حكاية ما سيكون في الحشر، وظاهره أن الله يبعث في الدنيا إلى الجن رسلا منهم، كما يبعث إلى الإنس رسلا منهم، وقيل معنى منكم: أي ممن هو مجانس لكم في الخلق والتكليف، والقصد بالمخاطبة، فإن الجن والإنس متحدون في ذلك، وإن كان الرسل من الإنس خاصة فهم من جنس الجن من تلك الحيثية، وقيل إنه من باب تغليب الإنس على الجن كما يغلب الذكر على الأنثى، وقيل المراد بالرسل إلى الجن هاهنا هم النذر منهم، كما في قوله - ولوا إلى قومهم منذرين -. قوله (يقصون عليكم آياتي) صفة أخرى لرسل، وقد نقدم بيان معنى القص. قوله (قالوا شهدنا على أنفسنا) هذا إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم بإرسال رسله إليهم، والجملة جواب سؤال مقدر فهي مستأنفة، وجملة (وغرتهم الحياة الدنيا) في محل نصب على الحال، أو هي جملة معترضة (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) هذه شهادة أخرى منهم على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين في الدنيا بالرسل المرسلين إليهم والآيات التي جاءوا بها. وقد تقدم ما يفيد أن مثل هذه الآية المصرحة بإقرارهم بالكفر على أنفسهم، ومثل قولهم - والله ربنا ما كنا مشركين - محمول على أنهم يقرون في بعض مواطن يوم القيامة وينكرون في بعض آخر لطول ذلك اليوم، واضطراب القلوب فيه وطيشان العقول. وانغلاق الأفهام وتبلد الأذهان، والإشارة بقوله (ذلك) إلى شهادتهم على أنفسهم أو إلى إرسال الرسل إليهم. وأن في (أن لم يكن ربك مهلك القرى) هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف. والمعنى: ذلك أن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى، أو هي المصدرية. والباء في (بظلم) سببية: أي لم أكن أهلك القرى بسبب ظلم من يظلم منهم، والحال أن أهلها غافلون، لم يرسل الله إليهم رسولا.
والمعنى: أن الله أرسل الرسل إلى عباده لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى، والحال أنهم غافلون عن الإعذار والإنذار بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم، وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم - وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا -، وقيل المعنى: ما كان الله مهلك أهل القرى بظلم منه، فهو سبحانه يتعالى عن الظلم بل إنما يهلكهم بعد أن يستحقوا ذلك وترتفع الغفلة عنهم بإرسال الأنبياء، وقيل المعنى: أن الله لا يهلك أهل القرى بسبب ظلم من يظلم منهم مع كون الآخرين غافلين عن ذلك، فهو مثل قوله - ولا تزر وازرة وزر أخرى - (ولكل درجات مما عملوا) أي لكل من الجن والإنس درجات متفاوتة مما عملوا فنجازيهم بأعمالهم. كما قال في آية أخرى - ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون -، وفيه دليل على أن المطيع من الجن في الجنة. والعاصي في النار (وما ربك بغافل عما يعملون) من أعمال الخير والشر، والغفلة ذهاب الشئ عنك لاشتغالك بغيره. قرأ ابن عامر (تعملون) بالفوقية، وقرأ الباقون بالتحتية.
وقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا) قال: يولي الله بعض الظالمين بعضا في الدنيا يتبع بعضهم بعضا في النار. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن