وإيجاده، لا ذات ولا وجود، بل محض العدم وعدم المحض. فذات كل شئ ووجوده وثباته وبقاؤه بالله العلي العظيم. فإذا قرأ التالي آية تدل على شئ من عجائب صنعه وغرائب فعله، فليتأمل في تلك العجائب، ثم يترقى منها إلى أعجب العجائب، وهي الصفة التي صدرت منها هذه الأعاجيب.
وإذا سمع وصف الجنة والنار وسائر أحوال الآخرة، فليتذكر أن ما في هذا العالم من النعم والنقم لا نسبة له إلى ما في عالم الآخرة، فلينتقل من ذلك إلى عظمة الله تعالى، وينقطع إليه باطنا، ليخلصه من عقوبات تلك النشأة، ويوصله إلى نعيمها ولذاتها. وإذا سمع أحوال الأنبياء عليهم السلام، من تكذيبهم وضربهم وقتلهم، فليفهم منه صفة الاستغناء لله تعالى من الرسل والمرسل إليهم، وأنه لو أهلك جميعهم لا يؤثر في ملكه وإذا سمع نصرتهم في الأمر، فليفهم قدرة الله وإرادته لنصرته لنصرة الحق. وأما أحوال المكذبين وما جرى عليهم من العقوبات وضروب النكال، فليستشعر الخوف من سطوته ونقمته، ويعتبر في نفسه، ويعلم أنه غفل وأساء الأدب، واغتر بما أمهل، فربما تدركه النقمة. وكذلك إذا سمع الوعد والوعيد والأمر والتهديد، فلا يمكن استقصاء ما يفهم من القرآن، لأنه لا نهاية له، إذ (لا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي) (47).
ولكل عبد منه بقدر استعداده ومقدار فهمه وصفاء نفسه.
ومنها - التخلي عن موانع الفهم: وهي التقليد والتعصب لمذهب، فإن ذلك بمنزلة حجاب لمرآة النفس يمنعها عن انعكاس غير معتقدها فيها، والجمود على تفسير ظاهر، ظانا أن غيره تفسير بالرأي لا يجوز ارتكابه، وصرف الهمة والفهم إلى تحقيق الحروف وما يتعلق بها من الأمور المتداولة بين القراء، فإن قصر التأمل على ذلك مانع من انكشاف المعاني، والاصرار على الذنوب الظاهرة والباطنة، ومتابعة الشهوات المظلمة للقلب الموجبة للحرمان عن انكشاف الأسرار والحقائق فيه، وإشراق المعارف الحقة عليه.