نزوله عن عرش جلاله إلى درجة أفهام خلقه: فلينظر كيف لطف بخلقه في إيصال معاني كلامه الذي هو صفة قائمة بذاته إلى أفهام خلقه، وكيف تجلت لهم تلك الصفة في طي حروف وأصوات هي صفات البشر، إذ يعجز البشر عن الوصول إلى فهم صفات الله إلا بوسيلة صفات نفسه، ولولا استتار كنه جمال كلامه بكسوة الحروف، لما ثبت لسماع كلامه عرش ولا ثرى، ولا شئ بينهما، من عظمة سلطانه وسبحات نوره، ولولا تثبيت الله موسى (ع) لما أطاق سماع كلامه، كما لم يطق الجبل مبادي تجلية حيث صار دكا، ولا يمكن تفهيم عظمة الكلام إلا بأمثلة على حد فهم الخلق، ولهذا عبر عنه بعض العارفين، فقال: (إن كل حرف من كلام الله في اللوح أعظم من جبل قاف، وإن الملائكة لو اجتمعت على الحرف الواحد أن ينقلوه ما أطاقوه، حتى يأتي إسرافيل، وهو ملك اللوح، فيرفعه. فنقله بأذن الله ورحمته، لا بقوته وطاقته). وإيصال معاني الكلام مع علو درجته إلى فهم الإنسان مع قصور رتبته، تشابه من درجة تصويت الإنسان البهائم والطيور. فإن الإنسان لما أراد تفهيم بعض الدواب والطيور ما يريد من إقبالها وإدبارها وتقديمها وتأخيرها، وكان تمييزها قاصرا عن فهم كلامه الصادر عن عقله مع حسنه وترتيبه وبديع نظمه، فينزل إلى درجة تمييز البهائم، ويوصل مقاصده إليها بأصوات لائقة بها، من النفير والصفير والأصوات القريبة من أصواتها، يطيقون حملها. وكذلك الناس، لما كانوا عاجزين عن حمل كلام الله بكنه وكمال صفاته، فتنزل من عرش العظمة والجلال إلى درجة إفهامه، فتجلى في مظاهر الأصوات والحروف، وقد يشرف الصوت لأجل الحكمة المحبوة فيه. فكما أن بدن البشر يكرم ويعزز لمكان الروح، فكذلك أصوات الكلام تشرف للحكمة التي فيها.
والكلام عالي المنزلة، رفيع الدرجة، قاهر السلطان، نافذ الحكم في الحق والباطل، وهو القاضي العادل، يأمر وينهى، ولا طاقة للباطل أن يقوم قدام كلام الحكمة، فلا يستطيع الظل أن يقوم قدام شعاع الشمس، ولا طاقة للناس أن ينفذوا غور الحكمة، كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء عين الشمس، ولكنهم ينالون منها ما تقدم به أبصارهم ويستدلون به على