هذه الدرجة تشتد البهجة، وتعظم الحلاوة واللذة. ولذلك قال بعض الحكماء (كنت أقرأ القرآن، فلا أجد له حلاوة، حتى تلوته كأني أسمعه عن رسول الله (ص) يتلوه على أصحابه، ثم رفعت إلى مقام فوقه، فكنت اتلوه كأني أسمعه من جبرئيل يلقيه على رسول الله (ص) فعندها وجدت لذة ونعيما لا أصبر عنه) وقال حذيفة: (لو طهرت القلوب، لم تشبع من قراءة القرآن) وذلك لأنها بالطهارة تترقى إلى مشاهدة المتكلم في الكلام، بل التوحيد الخالص للعبد، ألا يرى في كل شئ إلا الله، إذ لو رأى غيره، لا من حيث أنه منه وله وبه وإليه، كان مشركا بالشرك الخفي.
ومنها - التبري: وهو أن يتبرى من حوله وقوته، ولا يلتفت إلى نفسه بعين الرضا والتزكية. فإذا قرأ آيات الوعد ومدح الأخيار، فلا يشهد نفسه ولا يدخلها في زمرتهم، بل يشهد أهل الصدق واليقين، ويتشوق إلى أن يلحقه الله بهم. وإذا قرأ آيات المقت والوعيد، وذم العصاة والمقصرين شهد نفسه هناك، وقدر أنه المخاطب خوفا وإشفاقا. وإلى هذا أشار مولانا أمير المؤمنين (ع)، حيث قال في وصف المتقين: (وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم في آذانهم) فإذا رأى القارئ نفسه بصورة التقصير في القراءة كانت رؤيته سبب قربه. فإن من شهد البعد في القرب، لطف له بالخوف، حتى يسوقه إلى درجة أخرى في القرب وراءها، ومن شهد القرب في البعد مكر به بالأمن الذي يفيضه إلى درجة أخرى في البعد أسفل مما هو فيه. ومهما كان مشاهدا نفسه بعين الرضا، صار محجوبا بنفسه. فإذا جاوز حد الالتفات إلى نفسه، ولم يشاهد إلا الله تعالى في قراءته، وكشف له سر الملكوت بحسب أحواله، فحيث يتلو آيات الرحمة والرجاء، ويغلب على حاله الاستبشار، وتنكشف له صورة الجنة، فيشاهدها كأنه يراها عيانا، وأن غلب عليه الخوف، كوشف بالنار، حتى يرى أنواع عذابها، وذلك لأن كلام الله عز وجل يشتمل على السهل اللطيف، والشديد العسوف، والمرجو والمخوف، وذلك بحسب أوصافه، إذ منها الرحمة واللطف.
ومنه - القهر والبطش والانتقام: فبحسب مشاهدة الكلمات والصفات