فلما كانت رحمة الله واسعة قد عمت الخلق في جميع أحوالهم لم يعدها الجاهلون نعمة. ومثلهم كمثل العبد السوء الذي لو لم يضرب بطر وترك الشكر، وإذا ضرب في غالب الأحوال ترك ساعة شكر المولى على ذلك. ومن تأمل يعلم أن نعمة الله عليه في شربة ماء عند عطشه أعظم من ملك الأرض كلها. كما نقل: (أن بعض العلماء دخل على بعض الخلفاء، وفي يده كوز ماء يشربه، فقال له: عظني. فقال: لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل أموالك وملكك كله، ولو لم تعطه بقيت عطشانا، فهل تعطه؟ قال: نعم!
قال: فكيف تفرح بملكك لا يساوي شربة ماء!) هذا مع أن كل عبد لو أمعن النظر في حاله، لرأى من الله نعمة أو نعما كثيرة تخصه لا يشاركه فيها أحد، أو يشاركه يسير الناس، إما في العقل، أو في الخلق، أو في الورع والتقوى، أو الدين أو في صورته وشخصه، أو أهله وولده أو مسكنه وبلده، أو رفاقه وأقاربه، أو عزه وجاهه، أو طول عمره وصحة جسمه، أو غير ذلك من محابه. بل نقول: لو كان أحد لا يكون مخصوصا بشئ من ذلك، فلا ريب في أنه يعتقد في نفسه اختصاصه ومزيته في بعض هذه على سائر الخلق. فإن أكثر الناس يعتقدون كونهم اعقل الناس، أو أحسن أخلاقا منهم، مع أن الأمر ليس كذلك ولذلك لا يشكون من نقصان العقل كما يشكون من قلة المال، ولا يسألون الله أن يعطيهم العقل كما يسألون منه زيادة المال ويرى من غير عيوبا يكرهها وأخلاق يذمها، ولا يرى ذلك من نفسه.
وبالجملة: كل أحد يقدر في نفسه من المحاب وصفة الكمال ما لا يراه في غيره، وإن لم يكن مطابقا للواقع. ولذلك لو خير بأن يسلب منه ماله ويعطي ما خصص به غيره، لكان لا يرضى به. بل التأمل يعطي أن كل واحد من أكثر الناس لا يرضى أن يكون في جميع الصفات والأفعال والدين والدنيا مثل شخص آخر من الناس كائنا من كان، بل لو وكل إليه الاختيار وقيل له: أنت مخير في صيرورتك مثل من شئت وأردت من أفراد الناس لم يخير إلا نفسه. وإلى هذا أشار الله - سبحانه - بقوله:
ج / 3