الخروج عنها إليه ورغبتها إلى لقاء الله وما أعد في دار الآخرة لأهلها.
فإن قلت: غاية ما يتصور في البلاء أن يصبر عليه، وأما الشكر عليه فغير متصور، إذ الشكر إنما يستدعي نعمة وفرحا، والبلاء مصيبة وألم فكيف يشكر عليه؟ وعلى هذا ينبغي ألا يجتمع الصبر والشكر على شئ واحد، إذ الصبر يستدعي بلاء وألما، والشكر يستدعي نعمة وفرحا، فهما متضادان غير مجتمعين، فكيف حكمتم باجتماعهما في المصائب والبلايا الدنيوية؟
قلنا: كل واحد من النعمة والبلاء ينقسم إلى مطلق ومقيد. فالنعمة المطلقة كسعادة الآخرة والعلم والإيمان والأخلاق الحسنة في الدنيا، والنعمة المقيدة في الدنيا - أي ما هو نعمة وصلاح من وجه وبلاء وفساد من وجه - كالمال الذي يصلح الدين من وجه، ويفسده من وجه. والبلاء المطلق، كشقاوة الآخرة والكفر والجهل والأخلاق السيئة والمعاصي في الدنيا، والبلاء المقيد، كمصائب الدنيا، من الفقر والخوف والمرض وسائر أقسام المحن والمصائب، فإنها وإن كانت بلاء في الدنيا، ولكنها نعم في الآخرة. وعنه التحقيق لا تخلو عن تكفير الخطيئة، أو رياضة النفس، أو زيادة التجرد أو رفع الدرجة. فالنعمة المطلقة بإزائها الشكر المطلق، ولا معنى لاجتماع الصبر معه، والصبر الذي يجتمع معه لا ينافيه، كما يأتي. والبلاء المطلق لم يؤمر بالصبر عليه، إذ لا معنى للصبر على الكفر والمعصية، بل يجب عدم الصبر عليه والسعي في تركه. وأما البلاء المقيد، فهو الذي يجتمع فيه الصبر والشكر، وليس اجتماعهما من جهة واحدة حتى يلزم اجتماع الضدين، بل الصبر من حيث إيجابه الاغتمام والألم في الدنيا، والشكر من حيث أدائه إلى سعادة الآخرة وغيرها مما ذكر.
ثم لو لم يصبر على جهة شريفة، ولم يشكر على جهة خيرية، صار بلاء مطلقا لزم تركه بالرجوع إلى الصبر والشكر. وأما النعمة المقيدة، كالمال والثروة، فإن أدت إلى إصلاح الدين كانت نعمة مطلقة يجب عليها الشكر، ولم يكن محلا للصبر، وإن أدت إلى فساده كانت بلاء مطلقا واجب الترك، وإن أدت إلى بلاء الدنيا، كأن يصير ماله سببا لهلاك أولاده، وفساد مزاجه ويصير فوته باعثا لابتلائه ببعض المصائب الدنيوية، كان حكمه حكم البلاء