بينهما: إن من كفر نعمة الله فقد كفر كل نعمة في الوجود، فمن نظر إلى غير محرم - مثلا - فقد كفر، ففتح العين نعمة الله في الأجفان، ولا تقوم الأجفان إلا بالعين، ولا العين إلا بالرأس، ولا الرأس إلا بجميع البدن، ولا البدن إلا بالغذاء، ولا الغذاء إلا بالماء والأرض والهواء والمطر والغيم والشمس والقمر وسائر الكواكب، ولا يقوم شئ من ذلك إلا بالسماوات ولا السماوات إلا بالملائكة. فإن الكل كالشئ الواحد، يرتبط البعض منه بالبعض ارتباط أعضاء البدن بعضها ببعض. فإذا قد كفر كل نعمة في الوجود، من ابتداء الثرى إلى منتهى الثريا. وحينئذ لا يبقى جماد ولا نبات ولا حيوان، ولا ماء ولا هواء، ولا كوكب ولا فلك ولا ملك، إلا يلعنه. ولذلك ورد في الأخبار: (أن البقعة التي يجتمع فيها الناس، إما تلعنهم إذا تفرقوا، أو تستغفر لهم). وكذلك ورد: (إن الملائكة يلعنون العصاة). وورد: (أن العالم يستغفر له كل شئ، حتى الحوت في البحر). وأمثال هذه الأخبار الدالة على ما يفيد المراد خارجة بطرفه عن الاحصاء، وكل ذلك إشارة إلى أن العاصي بتطريفة واحدة يجني على جميع الملك والملكوت.
ثم جميع ما ذكرناه إنما يتعلق بجزء من المطعم، فاعتبر ما سواه. ثم تأمل هل يمكن أن يخرج أحد عن عهدة الشكر؟ كيف ولله في كل طرفة على كل عبد من عبيده نعم كثيرة خارجة عن الاحصاء؟ فإن في كل نفس ينبسط وينقبض نعمتين، إذ بانبساطه يخرج الدخان المحترق من القلب، ولو لم يخرج لهلك، وبانقباضه يجتمع روح الهواء إلى القلب، ولو لم يدخل نسيم الهواء فيه لا نقطع قلبه وهلك. ولم كان اليوم والليلة أربعا وعشرين ساعة وفي كل ساعة يوجد ألف نفس تخمينا، وإذا اعتبرت ذلك وقست عليه سائر النعم، يكون عليك في كل يوم وليلة آلاف ألوف نعمة في كل جزء من أجزاء بدنك، بل في كل جزء من أجزاء العالم، وكيف يمكن إحصاء ذلك ولذلك قال الله - تعالى -:
(وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) 16