سبحانه. ثم، الأسباب التي يتوقف عليها خلق هذه الحواس مما لا تتناهى، فلا نتعرض لبيانها. وبعد إدراك الغذاء - على ما ذكر - لا بد له من قوة أخرى يعرف بها كون الغذاء الذي ذاقه سابقا ورآه مرة أخرى موافقا أو مخالفا، وهذه القوة هي الحس المشترك، الذي يتأدى إليه جميع المحسوسات ويجتمع فيه، فإنك إذا أكلت شيئا أصفر مثلا فوجدته مرا مخالفا لك فتركته فإذا رأيته مرة أخرى فلا تعرف أنه مر ما لم تذقه، لولا الحس المشترك، إذ العين تبصر الصفرة ولا تدرك المرارة، والذوق يدرك المرارة ولا يدرك الصفرة، فلا بد من حاكم يجتمع عنده الصفرة والمرارة جميعا، حتى إذا أدرك الصفرة حكم بأنه مر، فيمتنع عن تناوله ثانيا. وهذه القوة - أعني الحس المشترك - يتوقف خلقه على أسباب ونعم لا يمكن إحصاؤها، فلتذرها على سنابلها.
ثم الإدراك بالحواس الظاهرة والحس المشترك، مما تشترك فيه سائر الحيوانات، ولو انحصر إدراك الإنسان أيضا به لكان ناقصا. إذ البهيمة تأكل ما تستلذ به في الحال ويضرها في ثاني الحال، فتمرض وتموت، إذ ليس لها إلا الإحساس بالحاضر، وأما إدراك العواقب فليس لها إليه سبيل.
فيتوقف تمييز صلاح العواقب وفسادها على قوة أخرى. فخلق الله للانسان العقل، به يدرك مضرة الأطعمة ومنفعتها في المآكل، وبه يدرك كيفية طبخ الأطعمة وتركيبها وأعداد أسبابها، فينتفع بعقله في الأكل الذي هو سبب صحته وهو أخس فوائد العقل وأقل الحكم فيه، إذ الحكم والفوائد المترتبة عليه أكثر من أن تحصى، وأعظم الحكم فيه معرفة الله ومعرفة صفاته وأفعاله. والعقل بمنزلة السلطان في مملكة البدن، والحواس الخمس كالجواسيس وأصحاب الأخبار والموكلين بنواحي المملكة، وقد وكل كل واحدة منها بأمر خاص. فواحدة بأخبار الألوان، وأخرى بأخبار الأصوات وأخرى بأخبار الروائح، وأخرى بأخبار الطعون، وأخرى بأخبار الحر والبرد والخشونة والملاسة واللين والصلابة. فهذه الجواسيس يقتنصون الأخبار من أقطار المملكة، ويسلمونها إلى الحس المشترك، وهو قاعد في مقدمة الدماغ، مثل صاحب الكتب والقصص على باب الملك، يجمع