واستقصاء ذلك في كل طعام طويل. فلنأخذ رغيفا واحدا، وننظر إلى بعض ما يحتاج إليه حتى يستدير ويصلح للأكل، إذ بيان جميع ما يحتاج إليه حتى يستدير الرغيف الواحد ليس ممكنا، فنقول:
أول ما يتوقف عليه هذا الرغيف الأرض، ثم القاء البذر فيها، ثم الثور الذي يثير الأرض مع آلته، كالفدان وغير ذلك، ثم تنقية الأرض من الحشائش، والتعهد بسقي الماء إلى أن يعقد الحب ويبدو صلاحه، ثم الحصاد، ثم الفرك، ثم التنقية والتصفية، ثم الطحن، ثم العجن، ثم الخبز. فتأمل عدد هذه الأفعال، واستحضر سائر الأفعال التي لم نذكرها، ثم تذكر عدد الأشخاص القائمين بها، وعدد الآلات التي يحتاج إليها. من الحديد والخشب والحجر وغيرها. وانظر إلى أعمال الصناع في إصلاح آلات الحراثة والتصفية والطحن والخبز من تجارة وحدادة وغيرهما، واحتياج كل منها إلى آلات كثيرة. ثم انظر كيف ألف الله سبحانه بين قلوب هؤلاء الصناع المصلحين، وسلط عليهم الأنس والمحبة، حتى ائتلفوا واجتمعوا وبنوا المدن والبلاد، ورتبوا المساكن والدور متجاورة متقاربة، وبنوا الأسواق والخانات وسائر أصناف البقاع، ولو تفرقت آراؤهم، وتنافرت طباعهم تنافر طباع الوحوش، لتبددوا وتباعدوا، ولم ينتفع بعضهم ببعض.
ثم لما كان في جبلة الإنسان الغيظ والعداوة، والحسد والمنافسة، والانحراف عن الحق، ربما زالت المحبة بين البعض لأعراض، فيزدحمون عليها، ويتنافسون فيها، وربما أدى إلى التنافر والتقابل. فبعث الله الأنبياء بالشرائع والقوانين ليرجعوا إليها عند التنازع، فيرتفع نزاعهم. ثم بعث الله العلماء الذين هم ورثة الأنبياء لحفظ هذه الشرائع والعلم بها. وبعث الله السلاطين حتى يقيموا الناس قهرا عليها لو أرادوا التخلف عنها، فسلط الله السلاطين أولى القوة والعدة على الناس، وألقى رعبهم في قلوبهم، وألهمهم إصلاح العبادة، بأن رتبوا الرؤساء والقضاة والحكام والسجن والأسواق واضطروا الخلق إلى قانون الشرع والعدل، وألزموهم التآلف والتعاون، ومنعوهم عن التفرق والتباغض فإصلاح الرعايا والصناع بالسلاطين، وإصلاح السلاطين بالعلماء، وإصلاح العلماء بالأنبياء، وإصلاح الأنبياء بالملائكة