خارجا عن مقدرة البشر. نعم ربما غلبت لذة المعرفة في أحوال، بحيث لا يقع معها الاحساس بلذة الجاه والرئاسة، إلا أن ذلك لا يدوم، بل تعتريه الفترات، فتعود إلى الحالة البشرية. وعلى هذا تنقسم القلوب إلى أربعة أقسام: لا يحب إلا الله، ولا يستريح إلا إليه، وليس فرحه إلا بزيادة المعرفة والفكر فيه، ولا يسكن إلا بحبه وأنسه، وقلب: أغلب أحواله الأنس بالله والتلذذ بمعرفته والفكر فيه، ولكن في بعض الأوقات والأحوال يعتريه الرجوع إلى أوصاف البشرية. وقلب: أغلب أحواله التلذذ بالجاه والرئاسة والمال وسائر الشهوات البدنية، وفي بعض الأوقات يتلذذ بالعلم والمعرفة وحب الله والأنس به. وقلب: لا يدري ما لذة المعرفة وما معنى الأنس بالله، وإنما لذته بالرئاسات والشهوات. والأول - أن كان ممكنا في الوجود فهو في غاية الندور. والثاني - أيضا نادر. والسر في ندور هذين القسمين: أن من انحصرت لذاته بمعرفة الله وحبه وأنسه، أو غلب عليه ذلك، فهو من ملوك الآخرة، والملوك هم الأقلون ولا يكثرون فكما لا يكون الفائق في الملك والاستيلاء في الدنيا إلا نادرا، وأكثر الناس دونهم، فكذا في ملك الآخرة فإن الدنيا مرآة الآخرة. إذ الدنيا عالم الشهادة وفي الآخرة عالم الغيب، وعالم الشهادة تابع لعالم الغيب، كما إن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر في المرآة، وهي وإن كانت الثانية في رتبة الوجود، إلا أنها في أمر الرؤية أولى، لأنك ترى صورتك في المرآة أولا، ثم ترى نفسك، فتعرف بالصورة القائمة بالمرآة صورتك التي هي قائمة بك ثانيا على سبيل المحاكاة، فانقلب التابع في الوجود متبوعا في حق الرؤيا والمعرفة، وانقلب المتأخر متقدما. وهذا النوع من الانعكاس والانتكاس ضرورة هذا العالم. وكذا عالم الملك والشهادة يحاكي عالم الغيب والملكوت، فمن الناس من لا ينظر في مرآة عالم الشهادة إلا بنظر الاعتبار، فلا ينظر في شئ من عالم الملك إلا ويعبر به إلى عالم الملكوت، فيسمى عبوره عبرة، وقد أمر الخلق به، فقيل:
(فاعتبروا يا أولي الأبصار) 11