حلول الغير به، وتخليته عن عوائق تحول بينه وبين مولاه، حتى لا يسمع إلا بالحق ومن الحق، ولا يبصر إلا به، ولا ينطق إلا به - كما في الحديث القدسي، فيكون تقربه بالنوافل سببا لصفاء باطنه، وارتفاع الحجاب عن قلبه، وحصوله في درجة القرب من ربه، وكل ذلك من فضل الله تعالى ولطفه به ثم قرب العبد من الله لا يوجب تغيرا وتجددا في صفات الله تعالى إذ التغير عليه سبحانه محال، لأنه لا يزال في نعوت الكمال والجلال والجمال على ما كان عليه في أزل الآزال، بل يوجب مجرد تغيير العبد بترقيه في مدارج الكمال، والتخلق بمكارم الأخلاق التي هي الأخلاق الآلهية، فكلما صار أكمل صفة وأتم علما وإحاطة بحقائق الأمور، وأثبت قوة في قهر الشياطين وقمع الشهوات، وأظهر نزاهة عن الرذائل، وأقوى تصرفا في ملكوت الأشياء صار أقرب إلى الله، ودرجات القرب غير متناهية، لعدم تناهي درجات الكمال، فمثل تقرب العبد إلى الله ليس كتقرب أحد المتقاربين إلى الآخر، إذا تحركا معا، بل كتقرب أحدهما مع تحركه إلى الآخر الذي كان ساكنا، أو كتقرب التلميذ في درجات الكمال إلى أستاذه، فإن التلميذ متحرك مترق من حضيض الجهل إلى بقاء العلم، ويطلب القرب من أستاذه في درجات العلم والكمال، والأستاذ ثابت واقف، وإن كان التلميذ يمكن أن يصل إلى مرتبة المساواة لأستاذه لتناهي كمالاته، وأما العبد، كائنا من كان، لا يمكن أن يصل إلى كمال يمكن أن تكون له نسبة إلى كمالاته سبحانه، لعدم تناهي كمالاته شدة وقوة وعدة وعلامة كون العبد محبوبا عن الله: أن يكون هو محبا له تعالى، مؤثرا إياه على غيره من المحاب، وأن يرى من بواطن أموره وظواهره أنه تعالى يهيئ له أسباب السعادة فيها، ويرشده إلى ما فيه خيره ويصده عن المعاصي بأسباب يعلم حصولها منه سبحانه، وأنه تعالى يتولى أمره، ظاهرة وباطنه، وسره وجهره، فيكون هو المشير عليه، والمدبر لأمره، والمزين لأخلاقه، والمستعمل لجوارحه، والمسدد لظاهره وباطنه، والجاعل لهمومه هما واحدا، والمبغض للدنيا في قلبه، والموحش له من غيره، والمؤنس له بلذة المناجاة في خلواته،
(١٤٦)