فضعفت عن إدراكه. وهذا كما إن الخفاش يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار، لا لخفاء النهار واستتاره، بل لشدة ظهوره وضعف بصر الخفاش، فإن بصره ضعيف يبهره نور الشمس إذا أشرق، فتكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سببا لامتناع أبصاره فلا يرى شيئا إلا إذا امتزج بالضوء الظلام وضعف ظهوره، فكذلك عقولنا ضعيفة، وجمال الحضرة الإلهية في نهاية الاشراق والاستنارة، وفي غاية الاستغراق والشمول، حتى لم تشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السماوات والأرض، فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب بإشراق نوره، واختفى عن العقول والبصائر بشدة ظهوره!
ولا تتعجب من اختفاء شئ بسبب شدة ظهوره، فإن الأشياء إنما تستبان بأضدادها، وما عم وجوده حتى لا ضد له عسر إدراكه، فلو اختلفت الأشياء، فدل بعضها على الله - تعالى - دون بعض، أدركت التفرقة على قرب، ولما اشتركت في الدلالة على نسق واحد، أشكل الأمران، ومثاله نور الشمس المشرق على الأرض، فإنا نعلم أنه عرض من الأعراض يحدث في الأرض، ويزول عند غيبة الشمس، فلو كانت الشمس دائمة الاشراق لا غرب لها، لكنا نظن أن لا هيئة في الأجسام إلا ألوانها، وهي السواد والبياض وغيرهما، وأما الضوء فلا ندركه وحده لكن لما غابت الشمس واظلمت المواضع أدركنا تفرقة بين الحالتين، فعلمنا أن الأجسام قد استضاءت بضوء فارقها عند الغروب، فعرفنا وجود النور بعدمه وما كنا نطلع عليه لولا عدمه إلا بعسر شديد، وذلك لمشاهدتنا الأجسام متشابهة غير مختلفة في النور والظلام. وهذا مع أن النور أظهر المحسوسات، إذ به تدرك سائر المحسوسات، فما هو ظاهر في نفسه مظهر لغيره انظر كيف استبهم أمره بسبب ظهوره لولا طريان ضده، فإذن واجب الوجود لذاته هو أظهر الأشياء وبه ظهرت الأشياء كلها ولو كان له عدم أو غيبة أو تغير، لانهدت في السماوات والأرض وبطل الملك والملكوت، وأدركت التفرقة بين الحالتين، ولو كان بعض الأشياء موجودا به، وبعضها موجودا بغيره، لأدركت التفرقة بين الشيئين في الدلالة، ولكن دلالته عامة في الأشياء على نسق واحد، ووجوده دائم في الأحوال يستحيل خلافه، فلا جرم أورثت شدة ظهوره خفاء كما قيل: