النفس الناطقة التي هي محل المعرفة، وإنما يقطع شواغلها وعوائقها ويخليها من جنسها، فأذن جميع أقطار ملكوت السماوات والأرض، فالأقطار عالم الربوبية التي هي غير متناهية، ميدان للعارفين، يتبوؤن منها حيث يشاؤن، من غير حاجة إلى حركة أجسامهم، ومن غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلا، إلا أنهم يتفاوتون في سعة ميادينهم بحسب تفاوتهم في اتساع الأنظار وسعة المعارف:
(ولكل درجات مما عملوا) (30).
ولا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم، ومن عرف هذه اللذة انمحت همومه وشهواته، وصار قلبه مستغرقا بنعيمها، ولا يشغله عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة، فكيف تشغله عنه لذات الدنيا وعلائقها، وكان في الدنيا والآخرة مشغولا بربه، فلو ألقي في النار لم يحس به لاستغراقه ، ولو عرض عليه نعيم الجنة لم يلتفت إليه لكمال نعيمه وبلوغه الغاية التي ليس فوقها غاية، ولعل سيد الرسل ص) عبر عن هذه اللذة - أي لذة مطالعة جمال الربوبية - حيث قال حاكيا عن الله سبحانه: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).
وهذه اللذة هي المراد من قوله تعالى:
(فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) (31).
وربما تعجل بعض هذه اللذات لمن انتهى صفاء قلبه إلى الغاية، ومع ذلك لا يخلو عن توسط بعض الحجب المانعة عن الوصل إلى كنهها، ما لم يحصل التجرد الكلي وخلع البدن العنصري، ولذلك قال بعضهم: أني أقول: (يا رب يا الله! فأجد ذلك أثقل على قلبي من الجبال، لأن النداء يكون من وراء حجاب، وهل رأيت جليسا ينادي جليسه). ثم من عرف الله وعرف حقيقة هذه اللذة، عرف أن اللذات المقرونة في الشهوات المختلفة منطوية تحت هذه اللذة، كما قيل: كانت لقلبي أهواء مفرقة فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي