يعرف الله بالله، وبه يعرف غيره، أي أفعاله وآثاره. وإلى هذا أشير في الكتاب الإلهي بقوله: (أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد) (35) وهذا الطريق غامض، وفهمه صعب على الأكثرين. وقد أشرنا إلى كيفيته في بعض كتبنا الإلهيات.
وثانيهما - وهو الأدنى، الاستدلال بالخلق على الحق - سبحانه - وهذا الطريق في غاية الوضوح، وأكثر الأفهام يتمكن من سلوكه، وهو متسع الأطراف، ومتكثر الشعوب والأكناف، إذ ما من ذرة من أعلى السماوات إلى تخوم الأرضين إلا وفيها عجائب آيات وغرائب آيات وغرائب بينات تدل على وجود الواجب وكمال قدرته وغاية حكمته ونهاية جلاله وعظمته، وذلك مما لا يتناهى.
(قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) (36) وعدم وصول بعض الأفهام من هذا الطريق إلى معرفة الله مع وضوحه، إنما للإعراض عن التفكير والتدبر والاشتغال بشهوات الدنيا وحظوظ النفس. ثم سلوك هذا الطريق، أي الاستدلال على الله - تعالى - وعلى كمال قدرته وعظمته، بالتفكر في الآيات الآفاقية والأنفسية، خوض في بحار لا ساحل لها، إذ عجائب ملكوت السماوات والأرض مما لا يمكن أن تحيط به الأفهام، فإن القدر الذي تبلغه أفهامنا القاصرة من عجائب حكمته الباهرة تنقضي الأعمار دون إيضاحه ولا نسبة لما أحاط به علمنا إلى ما أحاط به علم العلماء، ولا نسبة له إلى ما أحاط به علم الأنبياء، ولا نسبة له إلى ما أحاط به علم الخلائق كلهم، ولا نسبة له إلى ما استأثر الله بعلمه، بل كلما عرفه الخلائق جميعا لا يستحق أن يسمى علما في جنب علم الله، ونحن قد أشرنا إلى لمعة يسيرة من عجائب حكمته المودعة في بعض مخلوقاته في مبحث التفكر.