فإن من خلا عن المعرفة، أو كانت له معرفة ضعيفة وقلبه مشحون بعلائق الدنيا، لا يدرك لذتها، فمن كملت معرفته وصفت عن علائق الدنيا سريرته، قويت بهجته واشتدت لذته، بحيث لا توازنها لذة، فإن للعارفين في معرفتهم وفكرتهم ومناجاتهم لله عز وجل ابتهاجات ولذات لو عرضت عليهم الجنة ونعيمها في الدنيا بدلا عنها لم يستبدلوها بها. ثم هذه اللذة مع كمالها لا نسبة لها أصلا إلى لذة اللقاء والمشاهدة، كما لا نسبة للذة خيال المعشوق إلى رؤيته، ولا للذة استنشاق روائح الأطعمة الطيبة إلى ذوقها وأكلها، ولا للذة اللمس باليد إلى لذة الوقاع.
ومما يوضح ذلك أن لذة النظر إلى وجه المعشوق تتفاوت بأمور:
أحدها - كمال جمال المعشوق ونقصانه.
وثانيها - كمال قوة الحب والشهوة وضعفه.
وثالثها - كمال الإدراك وضعفه، فإن الالتذاذ برؤية المعشوق في ظلمة، أو من بعد، أو من وراء ستر رقيق، ليس كالالتذاذ برؤيته على قرب من غير ستر عند كمال الضوء.
ورابعها عدم الآلام الشاغلة والعوائق المشوشة ووجودها، فإن التذاذ الصحيح الفارغ المتجرد للنظر إلى المعشوق ليس كالتذاذ الخائف المذعور أو المريض المتألم، أو المشغول قلبه بمهم من المهمات، فلو كان العاشق ضعيف الحب، ناظرا إلى معشوقه على بعد ومن وراء ستر رقيق، مشغول القلب بمهمات، مجتمعة عليه حيات وعقارب تؤذيه وتلدغه، لم يكن خاليا عن لذة ما في هذه الحالة من مشاهدة معشوقه، إلا أنه إذا فرض ارتفاع الستر وإشراق الضوء، واندفاع الحيات والعقارب المؤذية، وفراغ قلبه من المهمات، وحدوث عشق مفرط، وشهوة قوية، بحيث بلغت أقصى الغايات، تضاعفت لذته، بحيث لم تكن للذته الأولى نسبة إليها بوجه، فكذلك الحال في نسبة لذة المعرفة في الدنيا مع حجاب البدن والاشتغال بمهماته، ومع تسلط حيات الشهوات وعقاربها: من الجوع، والعطش والشبق، والغضب، والحزن، والهم، ومع ضعف النفس وقصورها ونقصانها في الدنيا عن التشوق إلى الملأ الأعلى، لالتفاتها إلى أسفل السافلين.