في الشطرنج أقوى عنده من لذة الأكل، وهذا معيار في الكشف عن ترجيح اللذات.
وحين إذ نقول: لا ريب في أن المعاني واللذات الباطنة أغلب على ذوي الكمال من اللذات الظاهرة، فلو خير الرجل بين لذة أكل المطاعم الطيبة ولذة الرئاسة والاستيلاء، فإن كان عالي الهمة كامل العقل، أختار الرئاسة وترك الأكل، وصبر على الجوع أياما كثيرة فضلا عن مدة قليلة، نعم، إن كان خسيس الهمة ميت القلب، ناقص العقل والبصيرة، كالصبي والمعتوه ربما أختار لذة الأكل، وفعل مثله ليس حجة. ثم كما أن لذة الرئاسة والكرامة أغلب وأرجح من اللذات الحسية عند من جاوز نقصان الصبي والسفاهة، فكذلك لذة المعرفة بالله ومطالعة جمال الحضرة الربوبية ألذ عنده من لذة الرئاسة، بشرط أن يكون ممن ذاق اللذتين وأدركهما، فلو كان ممن لم يذق لذة المعرفة بالله لم يكن أهلا للترجيح ومحلا للكلام، لاختصاص لذة المعرفة بمن نال رتبتها وذاقها، ولا يمكن إثبات ذلك عند من ليس له قلب، كما لا تثبت لذة الإبصار عند الأعمى، ولذة الاستماع عند الأصم، ولذة الوقاع عند العنين، ولذة الرئاسة عند الصبي والمعتوه، وليت شعري من لا يفهم إلا حب المحسوسات كيف يؤمر بلذة النظر إلى وجه الله تعالى، وليس له شبه وشكل وصورة، فحقيقة الحال كما قيل: (من ذاق عرف)، فمن ذاق اللذتين يترك لذة الرئاسة قطعا، ويستحقر أهلها لكونها مشوبة بالكدورات ومقطوعة بالموت، ويختار لذة المعرفة بالله، ومطالعة صفاته وأفعاله، ونظام مملكته من أعلى عليين إلى أسفل السافلين، فإنها خالية عن الانقطاع والمكدرات، متسعة للمتواردين عليها، لا تضيق بكثرتهم دائما وعرضها من حيث التفهيم والتمثيل أعظم من السماوات والأرض، ومن حيث الواقع ونفس الأمر فلا نهاية لعرضها، فلا يزال العارف بمطالعتها ومشاهدتها في جنة غير متناهية الأطراف والأقطار، يرتع في رياضها، ويركع (29) في حياضها، ويقطع من أثمارها، وهو آمن من انقطاعها، إذ ثمارها غير مقطوعة ولا ممنوعة بل هي أبدية سرمدية لا يقطعها الموت، إذ الموت لا يهدم