إلى لذة اللقاء والمشاهدة التي يندفع فيها جميع ذلك عن النفس، فالعارف لعدم خلوه في الدنيا عن هذه العوائق والمشوشات وإن قويت معرفته لا يمكن أن تكمل لذته وتصفو بهجته، وإن ضعفت عوائقه ومشوشاته في بعض الأحوال وبقي سالما، لاح له من جمال المعرفة ما تعظم لذته وبهجته ويدهش عقله، بحيث يكاد القلب يتفطر لعظمته، إلا أن ذلك كالبرق الخاطف، ولا يمكن أن يدوم، إذ الخلو عن العوائق والمشوشات ليس يمكن أن يدوم بل هو آني، ويعرض بعد الآن من الشواغل والأفكار والخواطر ما يشوشه وينقصه، وهذه ضرورة قائمة في هذه الحياة الفانية، فلا تزال هذه اللذة منقصة إلى الموت، وإنما الحياة الطيبة بعده، وإنما العيش عيش الآخرة، فإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون، ولذا كل عارف كملت معرفته في الدنيا وأحب لقاء الله يحب الموت ولا يكرهه، إلا من حيث إرادة زيادة استكمال في المعرفة، فإن المعرفة كما عرفت بمنزلة البذر، وكلما كثرت المعرفة بالله وبصفاته وبأفعاله وبأسرار مملكته، قويت المشاهدة واشتدت، وكثر النعيم في الآخرة وعظم، كما إنه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحسن. ولا ريب في أن المعرفة لا تنتهي إلى مرتبة لا تكون فوقها مرتبة، إذ بحر المعرفة لا ساحل له، والإحاطة بكنه جلال الله محال، فالعارف وإن قويت معرفته، ربما أحب طول العمر وكره الموت لتزداد معرفته.
ثم أهل السنة قالوا: (إن الرؤية في الآخرة مع تنزهها عن التخيل والتصوير والتقدير بالشكل والصورة والتحديد بالجهة والمكان: تكون بالعين دون القلب): (وهو عندنا باطل): إذ الرؤية بالعين محال في حق الله تعالى، سواء كانت في الدنيا أو في الآخرة، فكما لا تجوز رؤية الله سبحانه في الدنيا بالعين والبصر، فكذلك لا تجوز في الآخرة، وكما تجوز رؤيته في الآخرة بالعقل والبصيرة لأهل البصائر - أعني غاية الانكشاف والوضوح بحيث تتأدى إلى المشاهدة واللقاء - فكذلك تجوز رؤيته في الدنيا بهذا المعنى، والحجاب بينه وبين خلقه ليس إلا الجهل وقلة المعرفة دون الجسد، فإن العارفين وأولياء الله يشاهدونه في الدنيا في جميع أحوالهم ومنصرفاتهم،