وفي الثاني البصر، وشتان ما بينهما، فإن الاختلاف في مراتب الإدراك والرؤية بحسب اختلاف نورية المدرك، وأي نسبة لنورية البصر إلى نورية العقل وإشراقه، وما للعقل من النفوذ في حقائق الأشياء وبواطنها أنى يكون للبصر.
وقد ظهر مما ذكر: أنه لا يفوز بدرجة الرؤية والمشاهدة إلا العارفون في الدنيا، لأن المعرفة هي البذر الذي ينقلب في الآخرة مشاهدة، كما تنقلب النواة شجرة والبذر زرعا، ومن لا نواة له كيف يحصل له النخل، ومن لم يلق البذر كيف يحصد الزرع، فمن لم يعرف الله في الدنيا فكيف يراه في الآخرة، ومن لم يجد لذة المعرفة في الدنيا فلا يجد لذة النظر في العقبى، إذ لا يستأنف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه في الدنيا، فلا يحصد المرء إلا ما زرع، ولا يحشر إلا على ما مات عليه، ولا يموت إلا على ما عاش عليه.
ولما كانت المعرفة على درجات متفاوتة، يكون التجلي أيضا على درجات متفاوتة، فاختلاف التجلي بالإضافة إلى اختلاف المعارف كاختلاف النبات بالإضافة إلى اختلاف البذور، إذ يختلف لا محالة: بكثرتها وقلتها، وجودتها، وردائتها، وضعفها. ثم كلما كان التجلي والمشاهدة أقوى، كان ما يترتب عليه من حب الله والأنس به أشد وأقوى، وكلما كان الحب والأنس أزيد، كان ما يترتب عليه من البهجة واللذة أعلى وأقوى، وتبلغ هذه اللذة مرتبة لا تؤثر عليها لذة أخرى من نعيم الجنة، بل ربما بلغت حدا تتأذى من كل نعيم سوى لقاء الله ومشاهدته، فالنعمة والبهجة في الجنة بقدر حب الله، وحب الله بقدر معرفته، فأصل السعادات هي المعرفة التي عبر الشرع عنه ب (الإيمان).
فإن قيل: اللقاء والمشاهدة إن كانت زيادة كشف للمعرفة حتى تتحقق بين لذة الرؤية ولذة المعرفة نسبة، لكانت لذة اللقاء والرؤية قليلة، وإن كانت أضعاف لذة المعرفة، إذ هي في الدنيا ضعيفة، فتضاعفها إلى أي حد فرض لا ينتهي في القوة، إلا أن يستحقر في جنبها سائر لذات الجنة ونعيمها.
قلنا: هذا الاستحقاق والتقليل للذة المعرفة باعثه عدم المعرفة أو ضعفها