وأهمل صفات القلب، وربما تفقد صفات القلب وأخلاق النفس أيضا، وجاهد نفسه في التبري عنها، وقلع من قلبه منابتها الجلية القوية، ولكن بقيت في زوايا قلبه خفايا من مكائد الشيطان، وخبايا وتلبيسات النفس ما دق وغمض مدركه فلا يتفطن بها.
وجميع هؤلاء غافلون مغرورون، إذا كان اعتقادهم أنهم على خير وسعادة، وأن كان بينهم تفاوت من حيث الضعف والشدة، إذ سعادة النفس وخلاصها من العذاب لا تحصل إلا بمعرفة الله - تعالى - ومعرفة صفاته وأفعاله وأحواله النشأة الآخرة، والعمل برذائل الأخلاق وشرائفها، ثم تهذيب الباطن بفضائل الأخلاق وعمارة الظاهر بصوالح الطاعات والأعمال، فكل من يعلم بعض العلوم وترك ما هو المهم من العلم - أعني معرفة سلوك الطريق وقطع عقبات النفس التي هي الصفات المذمومة المانعة عن الوصول إلى الله - وظن أنه على خير كان مغرورا، إذا مات ملوثا بتلك الصفات كان محجوبا عن الله، فمن ترك العلم المهم واشتغل بغيره، فهو كمن له مرض خاص مهلك فاحتاج إلى تعلم الدواء واستعماله، فأشتغل بتعلم مرض آخر يضاد مرضه في المعالجة، كما أن من أحكم العلوم بأسرها وترك العمل، مثل المريض الذي تعلم دواء مرضه وكتبه، وهو يقرأه ويعلمه المرضى ولا يستعمله قط لنفسه، فإنه لا ريب في أن مجرد تعلم الدواء لا يشفيه، بل لو كتب منه ألف نسخة وعلمه ألف مريض حتى شفي جميعهم وكرره كل ليلة ألف مرة لم ينفعه ذلك من مرضه شيئا، حتى يشتري هذا الدواء ويشربه كما تعلم في وقته، ومع شربه واستعماله يكون على خطر من شفائه، فكيف إذا لم يشربه أصلا، فلو ظن أن مجرد تعلم الدواء يكفيه ويشفيه فهو مغرور، فكذلك من أحكم علم الطاعات ولم يعملها، وأحكم علم المعاصي ولم يجتنبها، وأحكم علم الأخلاق ولم يزل نفسه عن رذائلها ولم يتصف بفضائلها، فهو في غاية الغرور، إذ قال الله تعالى:
(قد أفلح من زكاها) (25)