في مجلسه، والتذاذا بتحريك الرؤوس على كلامه والبكاء عليه، وفرحا بكثرة الأصحاب والمستفيدين والمعتقدين به، وسرورا بالتخصيص بهذه الخاصة من بين سائر الأقران، وربما لم يبال بالكذب في نقل الأخبار والآثار، ظنا منه أنه أوقع في النفوس وأشد تأثيرا في رقة العوام وتواجدهم. ولا ريب في أن هؤلاء شر الناس، بل شياطين الإنس، ظلوا وأظلوا عن سواء السبيل، إذ الأولون أن لم يصلحوا أنفسهم، فقد أصلحوا غيرهم وصححوا كلامهم ووعظهم، وأما هؤلاء فإنهم يصدون عن سبيل الله، ويجرون الخلق إلى الغرور بالله، لأن سعيهم في ذكر ما يسر به العامة، ليصلوا به منهم إلى أغراضهم الفاسدة، فلا يزالون يذكرون ما يقوي الرجاء، ويزيدهم جرأة على المعاصي ورغبة في الدنيا، (لا) سيما إذا كان هذا الواعظ أيضا ممن يرغب في الدنيا، ويسر بوصول المال إليه، ويتزين في الثياب الفاخرة والمراكب الفارهة، وغيرهما من زينة الدنيا. فمثله ممن يضل ويكون إفساده أكثر من إصلاحه، ومع ذلك يظن أنه مروج الشرع والدين ومرشد الضالين، فهو أشد المغرورين والغافلين.
و (منهم) من هذب أخلاقه، وراقب قلبه، وصفاه عن جميع الكدورات، وصغرت الدنيا في عينه، وانقطع طمعه عن الخلق فلم يلتفت إليهم، ودعته الرحمة والشفقة على عباد الله إلى نصحهم واستخلاصهم عن أمراض المعاصي بالوعظ، فلما أستقل به وجد الشيطان مجال الفتنة، فدعاه إلى الرئاسة دعاء خفيا - أخفى من دبيب النملة - لا يشعر به، ولم يزل ذلك في قلبه يربو وينمو حتى دعاه إلى التصنع والتزين للخلق: بتحسين الألفاظ والنغمات والحركات، والتصنع في الزي والهيئة والشمائل، وأقبل الناس إليه يعظمونه ويوقرونه توقيرا يزيد على توقير الملوك، إذ رأوه شافيا لأمراضهم بمحض الرحمة والشفقة من غير طمع، فآثروه بأبدانهم وأموالهم، وصاروا له كالخدم والعبيد، فعند ذلك انتشر طبعه وارتاحت نفسه، وذاق لذة يا لها من لذة، وأصاب من الدنيا شهوة يستحقر معها كل شهوة، فوقع في أعظم لذات الدنيا بعد قطعه بأنه تاركا للدنيا، فقد غره الشيطان على ما لا يشعر به. وعلامة ثوران حب الرئاسة في باطنه: أنه لو ظهر من أقرانه