إليهم في الدنيا وأحسن إلينا فيها فيكون محبا لنا ولا يكون محبا لهم، فيكون الأمر في الآخرة كذلك، كما قال الشاعر:
كما أحسن الله فيما مضى * كذلك يحسن فيما بقي ولا ريب في أن كل ذلك خيالات فاسدة وقياسات باطلة، فإن من ظن أن النعم الدنيوية دليل الحب والاكرام فقد أغتر بالله، إذ ظن أنه كريم عند الله، بدليل لا يدل على الكرامة بل يدل عند أولي البصائر على الهوان والخذلان، لأن نعيم الدنيا ولذاتها مهلكات ومبعدات من الله، وأن الله يحمي أحباءه الدنيا كما يحمي الوالد الشفيق ولده المريض لذائذ الأطعمة، ومثل معاملة الله - سبحانه - مع المؤمن الخالص والكافر والفاسق، حيث يزوي الدنيا عن الأول ويصيب نعمها ولذاتها على الثاني، مثل من كان له عبدان صغيران يحب أحدهما ويبغض الآخر، فيمنع الأول من اللعب ويلزمه المكتب ويحبسه فيه ليعلمه الأدب ويمنعه من لذائذ الأطعمة والفواكه التي تضره ويسقيه الأدوية البشعة التي تنفعه، ويهمل الثاني ليعيش كيف يريد ويلعب ويأكل كلما يشتهي، فلو ظن هذا العبد المهمل أنه محبوب كريم عند سيده لتمكنه من شهواته ولذاته، وأن الآخر مبغوض عنده لمنعه عن مشتهياته، كان مغرورا أحمق، فقد كان الخائفون من ذوي البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وقالوا: ذنب عجلت العقوبة، وإذا أقبل عليهم الفقر قالوا: مرحبا بشعار الصالحين! وأما المغرورون فعلى خلاف ذلك، لظنهم أن إقبال الدنيا عليهم كرامة من الله وأن إدبارها عنهم هوان لهم، كما أخبر الله - تعالى - عنه بقوله:
(فأما الإنسان إذ ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن) (13).
وعلاج هذا الغرور: أن يعرف أن أقبال الدنيا دليل الهوان والخذلان دون الكرامة والاحسان، والتجرد منها سبب الكرامة والقرب إلى الله - سبحانه - والطريق إلى هذه المعرفة: إما ملاحظة أحوال الأنبياء والأولياء