توضيح ذلك أن من الواجبات ما لا يتصور له منفعة مقصودة مع قطع النظر عن وجوبه وبملاحظة ذاته سواء كان كفائيا كدفن الميت وكفنه فيما كان من قام به الكفاية متعددا أو عينيا وانما يتصور المنفعة المقصودة له بملاحظة وجوبه كما في المثال المذكور فان المنفعة المقصودة له وهي اسقاط العقاب وحصول الثواب انما جاءت من قبل الوجوب من حيث كونها من لوازمه بحيث لو فرض عدم وجوبه لم يكن له منفعة مقصودة بملاحظة ذاته وهذا هو الذي مر الكلام في جواز اخذ الأجرة عليه وعدمه ومنها ما يتصور له منفعة مقصودة مع قطع النظر عن الوجوب وملاحظته بل هي ثابتة له بالنظر إلى ذاته من غير مدخلية للوجوب فيها بل يكون الوجوب متفرعا عليه كما في جميع الحرف والصنايع الواجبة من حيث توقف النظام عليها فان لها منفعة مقصودة محتاجا إليها الناس مع قطع النظر عن وجوبها.
وبعبارة أخرى قد يكون المنفعة المقصودة للفعل الواجب ما يكون من لوازم الوجوب ومتفرعا عليه كجلب الثواب ودفع العقاب فإنهما من لوازم الواجب من حيث الإطاعة كما أن ضدهما من لوازمه من حيث المخالفة بحيث لو لم يكن هناك وجوب لم يتحقق هذه المنفعة يقطعا وهذا هو الذي قد مر الكلام في مانعية الوجوب فيه لاخذ الأجرة وعدمها وقد تكون ثابتة له مع قطع النظر عن وجوبه كما في الحرف والصنايع وهذا مما يجوز اخذ الأجرة عليه وان قلنا بمانعية الوجوب لاخذ الأجرة في القسم الأول بقول مطلق.
والدليل عليه امران أحدهما ان الفعل فيما نحن فيه لما كان ذا منفعة مع قطع النظر عن وجوبه فيصلح لان (فيصح ان خ) يتعلق الامر به مقيدا بالتبرع وباخذ الأجرة وبذاته مع قطع النظر عن القيدين وهذا بخلاف القسم الأول فإنه لا يجوز ان يتعلق الامر به الا بالعنوان الأخير اي بملاحظة ذاته فان قابليته للتبرع والأجرة انما هي بعد الوجوب حسبما فرض من انحصار المنفعة فيه في جلب الثواب ودفع العقاب فلا يمكن ان يقيد الوجوب بهما في هذا القسم الأول فهما اعتباران حاصلان بعد الوجوب فلا يعقل تقييد الوجوب بأحدهما وهذا بخلاف ما نحن فيه فإنه لمكان وجود المنفعة له قبل الوجوب ومع قطع النظر عنه يمكن ان يقيد الوجوب فيه بأحد الاعتبارين وحيث كان الوجوب فيه قابلا لان يقيد بأحد القيدين المذكورين فان دل دليل على كون الوجوب متعلقا به بأحد العناوين الثلاثة فيتبع ويراعى حكمه وإن لم يدل دليل على ذلك ودار امره بين الأمور الثلاثة كما هو المفروض في المقام فلا بد من أن يأخذ بالقدر المتيقن وهو الوجوب مع الأجرة فيكون الواجب في الحقيقة هو التكسب بالعمل فيبقى الأدلة الدالة على احترام عمل المسلم سليمة عن المقيد والمخصص فقضية الجمع بين أدلة وجوب الحرف والصنايع وأدلة حرمة عمل المسلم وانه كما له هو (هي خ) الاخذ بالقدر المتيقن وهو الوجوب مع الأجرة والمفروض حصول الغرض وهو حفظ النظام بذلك أيضا.
ثانيهما ان ما دل على وجوب الفعل في هذا القسم وهو حفظ النظام واختلال النظم لولاه لما كان مشتركا بين العامل والمعمول له فيدل على كون الواجب هو خصوص التكسب والا لخرج عن دلالته على الاشتراك بينهما فالواجب على الطبيب مثلا هو الطبابة إذا بذل له الأجرة والواجب على المريض هو بذل الأجرة لوجوب حفظ النفس عليه أيضا والفرق بين هذا الدليل وسابقه مع اشتراكهما في الدلالة على كون الواجب هو التكسب بالعمل هو كون الدلالة في الأول حاصلة من الدوران والاخذ بالقدر المتيقن وفي الثاني حاصلة من نفس الدليل الدال على وجوب هذا الفعل.
والحاصل انه كما يجب على ذوي الحرف والصنايع بذل عملهم وعدم الامتناع منه لحفظ النظام كذلك