نسبوه إلى الخفة والطيش ولم يكتفوا بذلك حتى قالوا (إنا لنظنك من الكاذبين) مؤكدين لظنهم كذبه فيما ادعاه من الرسالة ثم أجاب عليهم بنفي السفاهة عنه، واستدرك من ذلك بأنه رسول رب العالمين. وقد تقدم بيان معنى هذا قريبا، وكذلك سبق تفسير (أبلغكم رسالات ربي) وتقدم معنى الناصح، والأمين المعروف بالأمانة، وسبق أيضا تفسير (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم) في قصة نوح التي قبل هذه القصة.
قوله (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) أذكرهم نعمة من نعم الله عليهم، وهي أنه جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح: أي جعلهم سكان الأرض التي كانوا فيها، أو جعلهم ملوكا، وإذ منصوب باذكر وجعل الذكر للوقت. والمراد ما كان فيه من الاستخلاف على الأرض لقصد المبالغة، لأن الشئ إذا كان وقته مستحقا للذكر، فهو مستحق له بالأولى (وزادكم في الخلق بسطة) أي طولا في الخلق وعظم جسم زيادة على ما كان عليه آباؤهم في الأبدان. وقد ورد عن السلف حكايات عن عظم أجرام قوم عاد. قوله (فاذكروا آلاء الله) الآلاء: جمع إلى ومن جملتها نعمة الاستخلاف في الأرض، والبسطة في الخلق وغير ذلك مما أنعم به عليهم، وكرر التذكير لزيادة التقرير، والآلاء النعم (لعلكم تفلحون) إن تذكرتم ذلك لأن الذكر للنعمة بسبب باعث على شكرها، ومن شكر فقد أفلح. قوله (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده) هذا استنكار منهم لدعائه إلى عبادة الله وحده دون معبوداتهم التي جعلوها شركاء لله، وإنما كان هذا مستنكرا عندهم لأنهم وجدوا آباءهم على خلاف ما دعاهم إليه (ونذر ما كان يعبد آباؤنا) أي نترك الذي كانوا يعبدونه، وهذا داخل في جملة ما استنكروه. قوله (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) هذا استعجال منهم للعذاب الذي كان هود يعدهم به، لشدة تمردهم على الله ونكوصهم عن طريق الحق وبعدهم عن اتباع الصواب، فأجابهم بقوله (قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب) جعل ما هو متوقع كالواقع تنبيها على تحقق وقوعه، كما ذكره أئمة المعاني والبيان، وقيل معنى وقع وجب: والرجس العذاب، وقيل هو هنا الرين على القلب بزيادة الكفر، ثم استنكر عليهم ما وقع منهم من المجادلة، فقال (أتجادلونني في أسماء) يعني أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها جعلها أسماء، لأن مسمياتها لا حقيقة لها بل تسميتها بالآلهة باطلة فكأنها معدومة لم توجد بل الموجود أسماؤها فقط (سميتموها أنتم وآباؤكم) أي سميتم بها معبوداتكم من جهة أنفسكم أنتم وآباؤكم ولا حقيقة لذلك (ما نزل الله بها من سلطان) أي من حجة تحتجون بها على ما تدعونه لها من الدعاوي الباطلة ثم توعدهم بأشد وعيد فقال (فانتظروا إني معكم من المنتظرين) أي فانتظروا ما طلبتموه من العذاب فإني معكم من المنتظرين له، وهو واقع بكم لا محالة ونازل عليكم بلا شك، ثم أخبر الله سبحانه أنه نجى هودا ومن معه من المؤمنين به من العذاب النازل بمن كفر به ولم تقبل رسالته، وأنه قطع دابر القوم المكذبين: أي استأصلهم جميعا. وقد تقدم تحقيق معناه، وجملة (وما كانوا مؤمنين) معطوفة على كذبوا: أي استأصلنا هؤلاء القوم الجامعين بين التكذيب بآياتنا وعدم الإيمان.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (وإلى عاد أخاهم هودا) قال: ليس بأخيهم في الدين ولكنه أخوهم في النسب لأنه منهم فلذلك جعل أخاهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن خيثم قال: كانت عاد ما بين اليمن إلى الشأم مثل الذر. وأخرج ابن عساكر عن وهب قال: كان الرجل من عاد ستين ذراعا بذراعهم، وكان هامة الرجل مثل القبة العظيمة، وكان عين الرجل لتفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر ذراعا طولا. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس قال: كان الرجل منهم ثمانين باعا، وكانت البرة فيهم ككلية البقرة، والرمانة الواحدة يقعد في قشرها عشرة نفر.