فقام عيسى فتوضأ، وصلى صلاة طويلة، ثم كشف المنديل عنها، وقال بسم الله خير الرازقين، فإذا هو سمكة مشوية ليس عليها فلوسها، تسيل سيلا من الدسم، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خل، وحولها من أنواع البقول ما عدا الكراث. وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد.
فقال شمعون: يا روح الله! أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال عيسى: ليس شئ مما ترون من طعام الدنيا، ولا من طعام الآخرة، ولكنه شئ افتعله الله بالقدرة الغالبة. كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم من فضله. فقال الحواريون: يا روح الله! لو أريتنا من هذه الآية اليوم آية أخرى؟ فقال عيسى: يا سمكة أحيي بإذن الله، فاضطربت السمكة، وعاد عليها فلوسها وشوكها، ففزعوا منها، فقال عيسى: ما لكم تسألون أشياء إذا أعطيتموها كرهتموها ما أخوفني عليكم أن تعذبوا يا سمكة عودي كما كنت بإذن الله، فعادت السمكة مشوية كما كانت.
فقالوا: يا روح الله! كن أول من يأكل منها، ثم نأكل نحن. فقال عيسى:
معاذ الله أن آكل منها، ولكن يأكل منها من سألها. فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا لها عيسى أهل الفاقة (1)، والزمني، والمرضى، والمبتلين، فقال: كلوا منها جميعا، ولكم المهنا ولغيركم البلاء. فأكل منها ألف وثلائمائة رجل وامرأة، من فقير، ومريض، ومبتلى، وكلهم شبعان يتجشى. ثم نظر عيسى إلى السمكة فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السماء، ثم طارت المائدة صعدا، وهم ينظرون إليها، حتى توارت عنهم، فلم يأكل منها يومئذ زمن إلا صح، ولا مريض إلا أبرئ، ولا فقير إلا استغنى، ولم يزل غنيا حتى مات وندم الحواريون، ومن لم يأكل منها.
وكانت إذا نزلت اجتمع الأغنياء والفقراء، والصغار والكبار، يتزاحمون عليها، فلما رأى ذلك عيسى جعلها نوبة بينهم، فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى، فلا تزال منصوبة يؤكل منها، حتى إذا فاء الفئ طارت صعدا، وهم ينظرون في ظلها حتى توارت عنهم.
وكانت تنزل غبا يوما، ويوما لا، فأوحى الله إلى عيسى: اجعل مائدتي للفقراء