مريم) عن قومه، لما التمسوا منه. وقيل: إنه إنما سأل ربه ذلك حين أذن له في السؤال (اللهم ربنا أنزل علينا مائدة) أي: خوانا عليه طعام (من السماء تكون لنا عيدا) قيل في معناه قولان: أحدهما: نتخذ اليوم الذي تنزل فيه عيدا نعظمه نحن، ومن يأتي بعدنا، عن السدي، وقتادة، وابن جريج، وهو قول أبي علي الجبائي.
والثاني: إن معناه تكون عائدة فضل من الله علينا، ونعمة منه لنا، والأول هو الوجه (لأولنا وآخرنا) أي: لأهل زماننا، ومن يجئ بعدنا. وقيل: معناه يأكل منها آخر الناس، كما يأكل أولهم، عن ابن عباس. (وآية منك) أي: ودلالة منك عظيمة الشأن في إزعاج قلوب العباد إلى الإقرار بمدلولها، والاعتراف بالحق الذي تشهد به ظاهرها، تدل على توحيدك، وصحة نبوة نبيك (وارزقنا) أي: واجعل ذلك رزقا لنا. وقيل: معناه وارزقنا الشكر عليها عن الجبائي (وأنت خير الرازقين) وفي هذا دلالة على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضا، لأنه لو لم يكن كذلك لم يصح أن يقال له سبحانه (وأنت خير الرازقين) كما لا يجوز أن يقال أنت خير الآلهة، لما لم يكن غيره إلها (قال الله) مجيبا له إلى ما التمسه (إني منزلها) يعني: المائدة (عليكم فمن يكفر بعد منكم) أي: بعد إنزالها عليكم (فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) قيل في معناه أقوال أحدها: إنه أراد عالمي زمانه، فجحد القوم فكفروا بعد نزولها، فمسخوا قردة وخنازير، عن قتادة. وروي عن أبي الحسن موسى أنهم مسخوا خنازير وثانيها: إنه أراد عذاب الاستئصال. وثالثها: إنه أراد جنسا من العذاب، لا يعذب به أحدا غيرهم، وإنما استحقوا هذا النوع من العذاب بعد نزول المائدة، لأنهم كفروا بعد ما رأوا الآية التي هي من أزجر الآيات عن الكفر بعد سؤالهم لها، فاقتضت الحكمة اختصاصهم بفن من العذاب عظيم الموضع، كما اختصت آيتهم بفن من الزجر عظيم الموقع.
القصة: اختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا؟ فقال الحسن، ومجاهد:
إنها لم تنزل، وإن القوم لما سمعوا الشرط استعفوا عن نزولها، وقالوا: لا نريدها، ولا حاجة لنا فيها، فلم تنزل. والصحيح أنها نزلت، لقوله تعالى: (إني منزلها عليكم)، ولا يجوز أن يقع في خبره الخلف، ولأن الأخبار قد استفاضت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة، والتابعين، أنها نزلت. قال كعب: إنها نزلت يوم الأحد، ولذلك اتخذه النصارى عيدا.