جامع السعادات - محمد مهدي النراقي - ج ٣ - الصفحة ٣٠٧
وبعضها الكف عن الشهوات واللذات، كالصوم، وبعضها التجرد لذكر الله وتوجيه القلب إليه، وارتكاب تحريك الأعضاء وتعبها، كالصلاة، والحج من بينها مشتمل على جميع هذه الأمور مع الزيادة، إذ فيه هجران أوطان، وإتعاب أبدان، وإنفاق أموال، وانقطاع آمال، وتحمل مشاق. وتجديد ميثاق، وحضور مشاعر، وشهود شعائر، ويتحقق في أعماله التجرد لذكر الله، والإقبال عليه بضروب الطاعات والعبادات، مع كون أعماله أمورا لا تأنس بها النفوس، ولا تهتدي إلى معانيها العقول، كرمي الجمار بالأحجار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار، إذ بمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية، فإن سائر العبادات أعمال وأفعال يظهر وجهها للعقل، فللنفس إليها ميل، وللطبع بها أنس.
وأما بعض أعمال الحج، كرمي الجمار وترددات السعي، فلاحظ للنفس ولا أنس للطبع فيها ولا اهتداء للعقل إلى معانيها، فلا يكون الإقدام عليها إلا لمجرد الأمر وقصد الامتثال له من حيث أنه أمر واجب الاتباع، ففيها عزل العقل عن تصرفه، وصرف النفس والطبع عن محل أنسه، فإن كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلا ما، فيكون ذلك الميل معينا للامتثال، فلا يظهر به كمال الرق والانقياد ولذلك قال النبي (ص) في الحج على الخصوص: (لبيك بحجة حقا وتعبدا ورقا!)، ولم يقل ذلك في غيره من العبادات. فمثل هذه العبادات - أي ما لم يهتد العقل إلى معناه ووجه - أبلغ أنواع العبادات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضي الطبع والبغي إلى الاسترقاق، فتتعجب بعض الناس من هذه الأفعال العجيبة مصدره الجهل بأسرار التعبدات، وهذا هو السر في وضع الحج، مع دلالة كل عمل من أعماله على بعض أحوال الآخرة، أو في بعض أسرار أخر - كما يأتي - ما فيه من اجتماع أهل العالم في موضع تكرر فيه نزول الوحي، وهبوط جبرئيل وغيره من الملائكة المقربين على رسوله المكرم، ومن قبله على خليله المعظم - عليهما أفضل الصلاة - بل لا يزال مرجعا ومنزلا لجميع الأنبياء، من آدم إلى خاتم، ومهبطا للوحي، ومحلا لنزول طوائف الملائكة. وقد تولد فيه سيد الرسل (ص) وتوطأت أكثر
(٣٠٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 302 303 304 305 306 307 308 309 310 311 312 ... » »»
الفهرست