بخصوصها - كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون، وكالحرف لا معنى لها في نفسها بل تظهر لها المعاني في غيرها، وكذلك النقدان، لا غرض فيهما مع كونهما وسيلة إلى كل غرض. فالحكمة في خلقهما أن يحكما بين الأموال بالعدل، وتعرف بهما المقادير المختلفة، وتقوم بهما الأشياء المتباينة، ويحصل التوسل بهما إلى سائر الأموال. فيلزم إطلاقهما لتداولهما الأيدي، وتحصل بهما التسوية في تبادل الأعيان والمنافع المتخالفة، فمن ادخرهما وحبسهما فقد ظلمهما، وأبطل الحكمة فيهما، وكفر نعمة الله فيهما، وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن، ومن لم يدخرهما ولم يتصرف أزيد مما يحصل به التوصل إلى ما يحتاج، وأنفق الزائد في سبيل الله، فهو الذي استعملهما على وفق الحكمة وشكر نعمة الله فيهما. ولما عجز أكثر الناس عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة على صفحاتها في فائدتهما وحكمتهما بخط إلهي لا حرف فيه ولا صوت، أخبرهم الله عن ذلك بقوله:
(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) 9 وبما ذكرنا من وجه الحكمة فيهما، يظهر أن من أتخذ الأواني منهما فقد كفر نعمة الله فيهما أيضا، وكذا من عاملة معاملة الربا فيهما فقد كفر النعمة وظلم، لأنها أنما خلقا لغيرهما لا لأنفسهما، إذ لا غرض في عينيهما، فإذا أتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودا لأنفسهما على خلاف وضع الحكمة، وكذلك الحكمة في خلق الأطعمة أن يتغذى بها فلا ينبغي أن تصرف عن جهتها وتقيد في الأيدي، بل اللازم أن تخرج عن يد المستغني عنها إلى المحتاج. ولذا ورد في الشرع حرمة الاحتكار والمنع عن معاملة الربا في الأطعمة، لأن ذلك يوجب صرفها عن الحكمة المقصودة منها. وإذا عرفت ذلك، فقس عليه جميع أفعالك وأعمالك وحركاتك وسكناتك، فإن كل فعل يصدر منك أما شكر أو كفران لا يتصور أن ينفك عنهما، مثلا لو استنجيت باليمين، فقد كفرت نعمة اليدين، إذ خلق الله اليدين وجعل