إحداهما أقوى، واستحق الأقوى لرجحانه التفضيل، وتفضيل الناقص عليه عدول عن العدل، وهذا التفضيل إنما يتصور بأن تصرف الأقوى في الأفعال الشريفة، كأخذ المصحف وأكل الطعام، وتصرف الأضعف في الأعمال الخسيسة، كإزالة النجاسة، فمن خالف ذلك فقد عدل عن العدل وأبطل الحكمة وكفر النعمة، وكذلك إذا لبست خفك فابتدأت باليسرى فقد ظلمت، لأن الخف وقاية للرجل، فللرجل فيه حظ، والبداءة في الحظوظ ينبغي أن تكون بالأشرف، وهو العدل والعمل على وفق الحكمة، فخلافه ظلم وكفران.
وكذلك إن استقبلت القبلة عند قضاء الحاجة، فقد كفرت نعمة الله في خلق الجهات وخلق سعة العالم، لأنه خلق الجهات متعددة متسعة، وشرف بعضها بأن وضع فيه بيته، فينبغي استقباله بالأفعال الشريفة، كالصلاة والجلوس للذكر والاغتسال والوضوء دون الأفعال الخسيسة، كقضاء الحاجة ورمي البزاق، فمن قضى حاجته أو رمى بزاقه إلى جهة القبلة فقد ظلمها وكفر نعمة الله. وكذلك من كسر غصنا من شجرة من غير حاجة مهمة، ومن غير غرض صحيح، فقد كفر نعمة الله في خلق الأشجار وفي خلق اليد. أما اليد فلأنها لم تخلق للعبث، بل للطاعة المعينة عليها. وأما الشجر، فلأن الله تعالى خلقه، وخلق له العروق وساق إليه الماء، وخلق فيه قوة الاغتذاء والنماء ليبلغ منتهى نشوه فينتفع به عباده، فكسره قبل منتهى نشوه لأعلى وجه ينتفع به عباده، مخالفة المقصود الحكمة وعدول عن العدالة. نعم أن كان له غرض صحيح في كسره فله ذلك. إذ الشجر والحيوان جعلا فداءين لأغراض الإنسان، فإنهما جميعا فانيان هالكان.
فإفناء الأخس في بقاء الأشرف مدة ما أقرب إلى العدل من تضييعهما جميعا.
وإليه الإشارة بقوله تعالى:
(وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا) 10 ثم هذه الأفعال المتصفة بالكفران، بعضها يوجب نقصان القرب وانحطاط المنزلة، وبعضها يخرج بالكلية عن حدود القرب إلى عالم البعد