وأما من غرضه نيل الثواب والخلاص من العقاب، نظرا إلى أنه لم يعرف من الله سوى كونه إلها صانعا للعالم قادرا قاهرا عالما، وإن له جنة ينعم بها المطيعين، ونارا يعذب بها العاصين، فعبده ليفوز بجنته أو يتخلص من ناره: فجزاءه بمقتضى نيته أن يدخل جنته، وينجيه من ناره، لأن جزاء الأعمال حسب النيات، كما أخبر الله - تعالى - عنه في غير موضع من كتابه، فإن لكل امرء ما نوى، ولا تصغي إلى قول من ذهب إلى بطلان العبادة إذا قصد بفعلها الثواب أو الخلاص من العقاب زعما منه أن هذا القصد منافي للخلاص الذي هو أراد وجه الله وحده، أن من قصد ذلك أنما قصد جلب النفع إلى نفسه، ودفع الضرر عنها، لا وجه الله - سبحانه -، فإن هذا قول من لا معرفة له بحقائق التكاليف ومراتب الناس فيها، بل ولا معرفة له بمعنى النية وحقيقتها، فإن حقيقة النية عبارة من انبعاث النفس وميلها وتوجهها إلى ما فيه غرضها ومطلبها، إما عاجلا أو آجلا، لا مجرد قول الناوي عند العبادة: أفعل كذا قربة إلى الله، ومجرد تصور هذا القول بخاطره وملاحظته بقلبه وأن لم يكن لنفسه انبعاث إلى التقرب، هيهات هيهات! أنما هذا تحريك لسان وحديث نفس، وما ذلك إلا كقول الشبعان: أشتهي هذا الطعام، قاصدا حصول الاشتهاء، وهذا الانبعاث إذا لم يكن حاصلا للنفس لا يمكنها اختراعه واكتسابه لمجرد القول والتصور، وأكثر الناس تتعذر منهم العباد ابتغاء لوجه الله وتقربا إليه، لأنهم لا يعرفون من الله - تعالى - إلا المرجو والمخوف، فغاية مرتبتهم أن يتذكروا النار ويحذروا أنفسهم عقابا، ويتذكروا الجنة ويرغبوا أنفسهم ثوابها، وخصوصا من كان ملتفتا إلى الدنيا، فإنه قل ما تنبعث له داعية إلى فعل الخيرات لينال بها ثواب الآخرة، فضلا عن عبادته على نية أجلال الله - تعالى - لاستحقاقة الطاعة والعبودية، فإنه قل من يفهمها فضلا عمن يتعاطاها، فلو كلف بها لكان تكليفا بما لا يطاق، وليس معنى الإخلاص في العبادة إلا عدم كونها مشبوهة بشوائب الدنيا والحضور العاجلة للنفس، كمدح الناس، ونيل المال، والخلاص من النفقة لعتق العبد ونحو ذلك، وظاهر أنه لا تنافيه إرادة الجنة والخلاص من النار بما وعد في الآخرة، وإن
(٩٢)