ومن ناحية أخرى: أن الأنسب أن يدعوهم إلى أن يأتوا بما هو أقل قليل في ذات القرآن، ولو كان أكثر كثير بالقياس إلى المعاندين، المدعين: أنه ليس بشئ عجيب يعجز عنه البشر، ويخضع له الإنسان، ولذلك دعاهم إلى أن يأتوا بسورة، وهي ثلاث آيات، ولا يدعوهم هنا أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور مفتريات حتى يتوهموا أنه شئ كثير خارج عن قدرتهم لكثرته.
ومن ناحية ثالثة: أرشدهم إلى أن يتخذوا المعاونين والشاهدين المؤيدين والناصرين لهم المحركين إياهم إلى الشرك والإلحاد والإنكار، وكأنه يستفاد من الآية أنهم طائفتان: إحداهما تظهر للمقابلة معه (صلى الله عليه وآله وسلم)، والأخرى تعينهم بالغيب ومن وراء الحجاب، ويؤيد هذه الصفوف المختلفة ما مر في قوله تعالى: * (وإذا خلوا إلى شياطينهم) *، وقد مر تحقيقه في محله.
فبالجملة: هذه الآية اشتملت على جهات الأدب في المخاصمة والمحاجة، كما أنها مشتملة على نكات الفصاحة والبلاغة، مع رعاية جميع الجهات المنتهية إلى ضعفهم وفتورهم عن تمكنهم من الإتيان بمثل سورة الكوثر ونحوها، فضلا عن مثل سورة البقرة وأمثالها.
ومن هنا يظهر: أن قوله تعالى: * (إن كنتم صادقين) * أيضا سيق لإفادة أن كذبهم غير واضح وعجزهم غير قطعي، ويحتمل صدقهم في دعواهم الريب، وتخيلهم إمكان الاقتدار على الإتيان بمثله، ولا يواجههم بغلظة وشدة حتى يحركهم إلى التوغل في عقائدهم الباطلة، فإنه خروج عن الإرشاد والهداية المطلوبين من القرآن العزيز والنبي العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) وكن - أيها القارئ - مثله في دعوتك.