منصوبا على الاستثناء بمعنى لا تغلوا في دينكم إلا الحق، فيكون (الحق) مستثنى من النهي عن الغلو فيه، بأن يجوز الغلو فيما هو حق على معنى اتباعه.
المعنى: لما قدم سبحانه ذكر مقالات النصارى، عقبه بالرد عليهم والحجاج لهم، فقال: (ما المسيح بن مريم إلا رسول) أي: ليس هو بإله (قد خلت من قبله الرسل) أي: كما أن الرسل الذين مضوا قبله، ليسوا بآلهة، وإن أتوا بالمعجزات الباهرات، فكذلك المسيح. فمن ادعى له الإلهية، فهو كمن ادعى لهم الإلهية لتساويهم في المنزلة (وأمه صديقة) لأنها تصدق بآيات ربها، ومنزلة ولدها، وتصدقه فيما أخبرها به، بدلالة قوله (وصدقت بكلمات ربها) عن الحسن، والجبائي، وقيل: سميت صديقة لكثرة صدقها، وعظم منزلتها فيما تصدق به من أمرها (كانا يأكلان الطعام) قيل فيه قولان أحدهما: إنه احتجاج على النصارى بأن من ولده النساء، ويأكل الطعام، لا يكون إلها للعباد، لان سبيله سبيلهم في الحاجة إلى الصانع المدبر. والمعنى: إنهما كانا يعيشان بالغذاء، كما يعيش سائر الخلق، فكيف يكون إلها من لا يقيمه إلا أكل الطعام: وهذا معنى قول ابن عباس. والثاني:
إن ذلك كناية عن قضاء الحاجة، لأن من أكل الطعام، لا بد له من الحدث، فلما ذكر الأكل، صار كأنه أخبر عن عاقبته (أنظر كيف نبين لهم الآيات) أمر سبحانه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته، بأن يفكروا فيما بين تعالى من الآيات أي: الدلالات على بطلان ما اعتقدوه من ربوبية المسيح، ثم أمر بأن ينظر (ثم انظر أنى يؤفكون) أي: كيف يصرفون عن الحق الذي يؤدي إليه تدبر الآيات.
فالنظر الأول: إنما هو إلى فعله تعالى الجميل، في نصب الآيات، وإزاحة العلل. والنظر الثاني إلى أفعالهم القبيحة وتركهم التدبر للآيات، ثم زاد تعالى في الاحتجاج عليهم فقال (قل) يا محمد (أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا) أي: أتوجهون عبادتكم إلى من لا يقدر لكم على النفع والضر، لان القادر عليهما هو الله، أو من يمكنه الله تعالى من ذلك، والمستحق للعبادة إنما هو القادر على أصول النعم، والنفع، والضر، والخلق، والاحياء، والرزق، ولا يقدر على ذلك غير الله، فلا يستحق العبادة سواه (والله هو السميع) لأقوالكم (العليم) بضمائركم وفي هذا تحذير من الجزاء، واستدعاء إلى التوبة.
ثم دعاهم إلى ترك الغلو فقال (قل) يا محمد للنصارى فإنهم المخاطبون هنا.