والرابع: تناقضا كثيرا، عن ابن عباس.
وذلك أن كلام البشر إذا طال، وتضمن من المعاني ما تضمنه القرآن، لم يخل من التناقض في المعاني والاختلاف في اللفظ، وكل هذه المعاني منفي عن كلام الله كما قال: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) وهذه الآية تضمنت الدلالة على معان كثيرة. منها: بطلان التقليد، وصحة الاستدلال في أصول الدين، لأنه دعا إلى التفكر والتدبر، وحث على ذلك. ومنها: فساد قول من زعم أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول من الحشوية، وغيرهم، لأنه حث على تدبره ليعرفوه ويتبينوه ومنها: إنه لو كان من عند غيره لكان على وزان كلام عباده، ولوجدوا الاختلاف فيه. ومنها: إن المتناقض من الكلام، لا يكون من فعل الله، لأنه لو كان من فعله، لكان من عنده، لا من عند غيره، والاختلاف في الكلام، يكون على ثلاثة أضرب: اختلاف تناقض، واختلاف تفاوت، واختلاف تلاوة: واختلاف التفاوت يكون في الحسن والقبح، والخطأ والصواب، ونحو ذلك، مما تدعو إليه الحكمة، وتصرف عنه، وهذا الجنس من الاختلاف لا يوجد في القرآن البتة، كما لا يوجد اختلاف التناقض.
وأما اختلاف التلاوة: فهو ما يتلاوم في الجنس، كاختلاف وجوه القرآن، واختلاف مقادير الآيات والسور، واختلاف الاحكام في الناسخ والمنسوخ، فذلك موجود في القرآن، وكله حق، وكله صواب، واستدل بعضهم بانتفاء التناقض عن القرآن على أنه من فعل الله، بأن قال: لو لم يكن ذلك دلالة لما أخبرنا الله به، ولو لم يخبر بذلك، لكان لقائل أن يقول إنه يمكن أن يتحفظ في الكلام، ويهذب تهذيبا لا يوجد لذلك فيه شئ من التناقض. وعلى هذا فلا يمكن أن يجعل انتفاء التناقض جهة إعجاز القرآن إلا بعد معرفة صحة السمع، وصدق النبي.
ثم عاد تعالى إلى ذكر حالتهم فقال: (وإذا جاءهم) يعني هؤلاء الذين سبق ذكرهم من المنافقين. وقيل: هم الذين ذكرهم من ضعفة المسلمين (أمر من الأمن أو الخوف) يريد ما كان يرجف به من الاخبار في المدينة: إما من قبل عدو يقصدهم، وهو الخوف، أو من ظهور المؤمنين على عدوهم، وهو الأمن (أذاعوا به): أي تحدثوا به، وأفشوه من غير أن يعلموا صحته. كره الله ذلك، لان من فعل هذا، فلا يخلو كلامه من كذب، ولما يدخل على المؤمنين به من الخوف ثم قال