ينفع ذكره في قلبه، فالطريق فيه: أن يفرغ القلب عن كل شئ إلا عن ذكر الموت الذي بين يديه، كالذي يريد أن يسافر إلى بلد بعيد ما بينهما مفازة مخطرة، أو بحر عظيم لا بد أن يركبه، فإنه لا يتفكر إلا فيه، ومن تفكر في الموت بهذا الطريق وتكرر منه، لا ترى ذكره في قلبه، وعند ذلك يقل فرحه وسروره بالدنيا وتنزجر نفسه عنها، وينكسر قلبه، ويستعد لأجله. وأوقع طريق فيه أن يكثر ذكر أقرانه الذين مضوا قبله، ونقلوا من أنس العشرة إلى وحشة الوحدة، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مصاحبة الهوام والديدان، ويتذكر مصرعهم تحت التراب، ويتذكر صورهم في مناصبهم وأحوالهم، ثم يتفكر كيف محي التراب الآن حسن صورتهم، وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم، وكيف أملوا نسائهم وأيتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت منهم مساكنهم ومجالسهم وانقطعت آثارهم وأوحشت ديارهم، فمهما تذكر رجلا وفصل في قلبه حاله وكيفية صيانة وتوهم صورته، وتذكر نشاطه، وأمله في العيش والبقاء، ونسيانه للموت، وانخداعه بمؤثثات الأسباب، وركونه إلى القوة والشباب، وميله إلى الضحك واللهو، وغفلته عما بين يديه من الموت الذريع والهلاك السريع، وأنه كيف كان يتردد والآن قد تهدمت رجلاه ومفاصله، وكيف كان ينطق وقد أكل الدود لسانه، وكيف كان يضحك وقد أكل التراب أسنانه، وكيف دبر لنفسه الأمور وجمع من حطام الدنيا ما لا ينفق احتياجه إليه على مر الأعوام والشهور وذكر الأزمنة والدهور. ثم يتأمل أن مثلهم، وغفلته كغفلتهم وسيصير حاله في القبر كحالهم، فملازمة هذه الأفكار وأمثالها، مع دخول المقابر وتشييع الجنائز ومشاهدة المرضى، تجدد ذكر الموت في قلبه، حتى يغلب عليه بحيث يصير الموت نصب عينيه وذلك ربما يستعد له ويتجافى عن دار الغرور، وأما الذكر بظاهر القلب وعذبة اللسان فقيل الجدوى في النية والايقاظ ومهما طاب قلبه بشئ من أسباب الدنيا، فينبغي أن يتذكر في الحال أنه لا بد من مفارقته كما نقل: أن بعض الأكابر نظر يوما إلى داره فأعجبه حسنها فبكى وقال: والله لولا الموت لكنت مسرورا بها.
(٣٣)