أن العزم على ترك كل معصية يكون من عمل كليهما أو إحداهما، ومن فعل النفس بإعانتهما وانقيادهما للعاقلة، وأن كان الباعث على الرجوع وتهيج النفس والقوتين على مباشرة الرجوع والترك هو معرفة عظم ضرر الذنوب، وكونها حجابا بين العبد وبين المحبوب، ويمكن أن يقال: إن التوبة هو الرجوع عن الذنب، وهو من ثمرات الخوف والحب، فإن مقتضى الحب أن يمتثل مراد المحبوب ولا يعصى في شئ مما يريده ويطلب من الحب، فتكون من فضائل القوتين أيضا. ويمكن أن يقال: أن التوبة عبارة عن مجموع العلم بضرر الذنوب، وكونها حجابا بينه وبين الله والندم الحاصل منه، والقصد المتعلق بالترك حالا واستقبالا، والتلافي للماضي والندم، والقصد بالترك والتلافي من فعل القوتين أو فعل النفس بواسطة القوتين وانقيادهما للعاقلة، والعلم المذكور من العاقلة، فتكون التوبة من فضائل القوى الثلاث.
وتوضيح حقيقة التوبة: أنه إذا علم العبد علما يقينيا أن ما صدر عنه من الذنوب حائلة بينه وبين محابه، ثار من هذا العلم تألم القلب بسبب فوات المحبوب، وصار متأسفا على ما صدر عنه من الذنوب، سواء كانت أفعالا أو تروكا للطاعات، ويسمى تألمه - بسبب فعله أو تركه المفوت لمحبوبه - ندما. وإذا غلب هذا الندم على القلب، انبعثت منه حالة أخرى تسمى إرادة وقصدا إلى فعل له تعلق بالحال بترك الذنب الذي كان ملابسا له، وبالاستقبال بعزمه على ترك الذنب المفوت لمحبوبه إلى آخر عمره، وبالماضي بتلافيه ما فات بالجبر والقضاء. فالعلم - أعني اليقين بكون الذنوب سموما مهلكة - هو الأول، وهو مطلع البواقي، إذ مهما أشرق نور هذا اليقين على القلب أثمر نار الندم على الذنب، فيتألم به القلب، حيث ينظر بإشراق نور الإيمان واليقين أنه صار محجوبا عن محبوبه، كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة، فيسطع النور عليه بانقشاع سحاب أو انحسار حجاب، فيرى محبوبه قد أشرف على الهلاك، فتشتعل نيران الحب في قلبه وتنبعث بتلك النيران إرادته للانتهاض للتدارك. فالعلم، والندم، والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي: ثلاثة معاني مرتبة في