مواضعه قدمه الشريفة وأقدام سائر الأنبياء، ولذلك سمي ب (البيت العتيق) وقد شرفه الله تعالى بالإضافة إلى نفسه، ونصبه مقصدا لعباده، وجعل ما حواليه حرما لبيته، وتفخيما لأمره وجعل عرفات كالميدان على فناء حرمه، وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده، وقطع شجره، ووضعه على مثال حضرة الملوك، فقصده الزوار من كل فج عميق، ومن كل أوب سحيق، شعثاء غبراء، متواضعين لرب البيت، ومستكنين له، خضوعا لجلاله، واستكانة لعزته وعظمته، مع الاعتراف بتنزهه عن أن يحومه بيت أو يكتنفه بلد.
ولا ريب في أن الاجتماع في مثل هذا الموضع، مع ما فيه من حصول الموالفة والمصاحبة، ومجاورة الأبدال والأوتاد والأخيار المجتمعين من أقطار البلاد، وتظاهر الهمم، وتعاون النفوس على التضرع والابتهال والدعاء الموجب لسرعة الإجابة بذكر النبي (ص) وإجلاله ونزول الوحي عليه، وغاية سعيه واهتمامه في إعلاء كلمة الله ونشر أحكام دينه، فتحصل الرقة للقلب، والصفاء للنفس. ثم لكون الحج أعظم التكليفات لهذه الأمة، جعل بمنزلة الرهبانية في الملل السالفة، فإن الأمم الماضية إذا أرادوا العمل لأصعب التكاليف وأشقها على النفس، انفردوا عن الخلق، وانحازوا إلى قلل الجبال، وآثروا التوحش عن الخلق بطلب الأنس بالله، والتجرد له في جميع الحركات والسكنات، فتركوا اللذات الحاضرة، وألزموا أنفسهم الرياضات الشاقة، طمعا في الآخرة وقد أثنى الله عليهم في كتابه، وقال : (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) (53) وقال تعالى (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله) (54).
ولما اندرس ذلك، وأقبل الخلق على أتباع الشهوات، وهجروا التجرد لعبادة الله تعالى، وفروا عنها، بعث الله تعالى من سرة البطحاء محمد (ص)، لإحياء طريق الآخرة، وتجديد سنة المرسلين في سلوكها، فمسألة أهل الملل من الرهبانية والسياحة في دينه فقال (ص): (أبدلنا بالرهبانية الجهاد،