العصافير تشوش عليه، فلم يزل يطيرها بخشبة هي في يده ويعود إلى فكره، فتعود العصافير، فيعود إلى السفير بالخشبة، فقيل له: إن هذا سير الواني ولا يتقطع، فإن أردت الخلاص فأقطع الشجرة. فكذلك شجرة الشهوة، إذا استعملت وتفرعت أغصانها، إنجذبت إليها الأفكار انجذاب العصافير إلى الأشجار، وانجذاب الذباب إلى الأقذار، والشغل يطول في دفعها. فإن الذباب كلما ذب آب، ولأجله سمي ذبابا، وكذلك الخواطر. وهذه الشهوات كثيرة قلما يخلوا العبد منها، ويجمعها أصل واحد، وهو حب الدنيا، وذلك رأس كل خطيئة، وأساس كل نقصان، ومنبع كل فساد.
ومن انطوى باطنه على حب الدنيا حتى مال إلى شئ منها لا يتزود منها ويستعين بها على الآخرة، فلا يطمعن في أن تصفو له لذة المناجاة في الصلاة.
فإن من فرح بالدنيا فلا يفرح بالله وبمناجاته، وهمة الرجل مع قرة عينه، فإن كانت قرة عينه في الدنيا انصرف همه لا محالة إليها. ولكن - مع هذا - لا ينبغي أن تترك المجاهدة، ورد القلب إلى الصلاة، وتقليل الأسباب الشاغلة، فهذا هو الدواء، ولمرارته استبشعته الطباع، وبقيت العلة مزمنة، وصار الداء عضالا. حتى أن الأكابر اجتهدوا أن يصلوا ركعتين لا يحدثون أنفسهم فيهما بأمور الدنيا، فعجزوا عنه. فإذا لا مطمع فيه لأمثالنا، ويا ليت سلم لنا من الصلاة ثلثها أو ربعها من الوساوس، لنكون ممن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
وعلى الجملة: فهمة الدنيا وهمت الآخرة في القلب مثل الماء الذي يصب في قدح فيه خل، فبقدر ما يدخل فيه الماء يخرج منه الخل لا محالة، ولا يجتمعان. ثم جميع ما ذكر إنما هو في الخواطر المتعلقة بالأمور المهمة من الدنيا، حتى إذا خرجت هذه الأمور من القلب، خرجت منه هذه الخواطر أيضا. وقد تكون الخواطر من مجرد الوساوس الباطنة والخيالات الفاسدة، من دون تعلقها بشغل وعمل دنيوي يكون لها، ومن دون اختيار للعبد في خطورها وعدم خطورها، والأمر فيها أصعب، وإن كان لقلع حب الدنيا وشهواتها عن القلب مدخلية عظيمة في زوالها أيضا، إذ مادة هذه الوساوس أيضا، إما حب المال وحب الجاه، أو حب غيرهما من الأمور الشهوية