اللسان من الغيبة والكذب، ولو كانت مع ذلك مشتملة على تمام ما تقتضيه جبلة النفس من الاستعلاء والربوبية، كالكلمات التي توجب نفي الغير، والقدح فيه، والثناء على ذاتها تصريحا أو تعريضا، كان الصبر عنا أشد.
إذ مثل ذلك - مع كونه مما تيسر فعله وصار مألوفا معتادا - انضافت إليه شهوتان للنفس فيه: إحداهما نفي الكمال من غيرها، وأخراهما إثباته لذاتها. وميل النفس إلى مثل تلك المعصية في غاية الكمال، إذ به يتم ما تقتضيه جبلتها من التفوق والعلو، فصبرها عنها في غاية الصعوبة. وقد ظهر مما ذكر: أن أكثر ما شاع وذاع من المعاصي إنما يصدر من اللسان.
فينبغي من كل أحد أن يجتهد في حفظ لسانه بتقديم التروي على كلام يريد أن يتكلم به، فإن لم يكن معصية تكلم به، وإلا تركه، ولو لم يقدر على ذلك، وكان لسانه خارجا عن إطاعته في المحاورات وجبت عليه العزلة والانفراد، وتركه التكلم مع الناس، حتى تحصل له ملكة الاقتدار على حفظه. ثم صعوبة الصبر وسهولته لما كانت تختلف في آحاد المعاصي باختلاف داعية تلك المعاصي قوة وضعفا، فينبغي لكل طالب السعادة أن يعلم أن داعية نفسه إلى أي معصية أشد، فيكون سعيه في تركها أكثر. ثم حركة الخواطر باختلاج الوساوس أيسر بكثير من حركة اللسان بقبائح الكلمات، فلا يمكن الصبر عنها أصلا، إلا بأن يغلب على القلب هم آخر في الدين يستغرفه، كمن أصبح وهمومه هم واحد. وأكثر جولان الخاطر إنما يكون في فائت لا تدارك له، أو في مستقبل لا بد وأن يحصل منه ما هو مقدور.
وكيف كان، فهو تصور باطل، وتضييع وقت. إذ آلة استكمال العبد قلبه، فإذا غفل القلب في لحظة من ذكر يستفيد به أنسا بالله، أو فكر يستفيد به معرفة بالله، ويستفيد بالمعرفة حب الله، فهو مغبون.
الثاني - ما ليس حصوله مقدورا للعبد، ولكنه يقدر على دفعه بالتشفي، كما لو أوذي بفعل أو قول، أو جني عليه في نفسه أو ماله، فإن حصول الأذية والجناية وإن لم يرتبط باختياره، إلا أنه يقدر على التشفي من المؤذي أو الجاني بالانتقام منه، والصبر على ذلك بترك المكافات.
وهو قد يكون واجبا، وقد يكون فضيلة، وهو أعلى مراتب الصبر.