حبس النفس عما تحبه وتميل إليه، وثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى. وفي البلاء المطلق، كالكفر والجهل، لا معنى لتحقق الشكر أو الصبر فيه، وفي النعمة المطلقة كسعادة الآخرة والعلم وحسن الأخلاق، كما يتحقق فيها الشكر يتحقق فيها الصبر أيضا. إذ تحصيل السعادة، والعلم، والأخلاق الفاضلة، والابقاء عليها، لا ينفك عن مقاومته مع الهوى ومنع النفس عما تميل إليه. مع أن الشكر عليهما يستلزم منع النفس عن الكفر وهو الصبر على المعصية. حتى أن شكر العينين بالنظر إلى عجائب صنع الله يستلزم الصبر عن الغفلة والنوم، والنظر إلى ما تميل إليه النفس من النظر إلى غير المحارم وأمثال ذلك.
فإن قيل: استلزام كل من الصبر والشكر للآخر مما لا ريب فيه، إلا أن الكلام في أنه إذا لم يتحقق الاتحاد بينهما في فعل، كما في فعل الطاعة وترك المعصية لكونهما متحدين فيهما، بل تحقق الاستلزام الموجب لتحقق جهتين، فأي الجهتين أفضل؟ مثل أن يبتلى أحد بمصيبة دنيوية، فصبر عليها، بمعنى أنه عرف إنها من الله وحبس نفسه عن الجزع والاضطراب، وشكر عليها أيضا، بمعنى أنه عرف أن النعم اللازمة لها من الثواب الأخروي وغيرها من الله، وفرح بها، وعمل بمقتضى فرحه من التحميد أو طاعة أخرى، فهل الأفضل حينئذ جهة الصبر، أو جهة الشكر؟
قلنا: التأمل يعطي: أن كل صبر هو شكر بعينه، وبالعكس. فلا تتحقق بينهما جهتان مختلفتان حتى يتصور الترجيح بينهما. فإن الصبر على البلاء إنما هو حبس النفس عن الجزع تعظيما لله. وهذا هو عين الشكر إذ كل طاعة لله - سبحانه - شكر، وفي الشكر على النعم المطلقة منع النفس عن الكفران، وهو عين الصبر عن المعصية.
فإن قلت: فعلى هذا، يجتمع الصبر والشكر في محل واحد بجهة واحدة، وقد تقدم أنهما متضادان، إذ الصبر يستدعي ألما، والشكر يستدعي فرحا، وقد ذكرت أن اجتماع الصبر والشكر في محل واحد إنما يكون من جهتين متغايرتين لا من جهة واحدة.
قلنا: امتناع الاتحاد فيهما إنما هو في الصبر والشكر على ما هو كان