في باب الصبر: أن في الجنان درجات عالية لا يبلغها أحد إلا بالمصائب الدنيوية والصبر والشكر عليها، ويؤيده ابتلاء أكابر النوع، من الأنبياء والأولياء بالمصائب العظيمة في الدنيا، وما ورد من أن أعظم البلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء، ثم بالأمثل فالأمثل في درجات العلاء والولاء. وعلى هذا فالظاهر اختلاف أصلحية كل من البلاء والعافية باختلاف مراتب الناس. فمن كان قوي النفس صابرا شاكرا في البلاء، ولم يصده عن الذكر والفكر والحضور والأنس والطاعات والاقبال عليها، ولم يصر باعثا لنقصان الحب لله، فالبلاء في حقه أفضل في بعض الأوقات، إذ بإزائه في الآخرة من عوالي الدرجات ما لا يبلغ بدونه. ومن كان له ضعف نفس يوجب ابتلائه بالمصائب جزعا أو كفرانا، أو منعه شئ مما ذكر، فالعافية أصلح في حقه، وربما كان البلاء مما منعه من الوصول إلى المراتب العظيمة، فلا ريب في أن العافية وعدم هذا البلاء أفضل وأعلى منه. فإن البصير الذي توسل بعينيه إلى النظر إلى عجائب صنع الله، وتوصل به إلى معرفة الله، وتمكن لأجل العينين إلى مطالعة العلوم وتصنيف الكتب الكثيرة من أنواع العلوم، وتبقى آثاره العلمية على مر الدهور، وينتفع من علومه الناس أبدا، وربما بلغ لأجل العينين إلى غاية درجات المعرفة والقرب والحب والأنس والاستغراق، ولولا وجود العينين له لم يبلغ إلى شئ من ذلك، فلا ريب في أن وجود البصر لمثله أفضل وأصلح من عدمه، ولولا ذلك لكان رتبة شعيب مثلا - وقد كان ضريرا من بين الأنبياء - فوق رتبة موسى وإبراهيم وغيرهما - عليهم السلام - لأنه صبر على فقد البصر، وموسى لم يصبر عليه، ولكان الكمال في أن يسلب الإنسان الأطراف كلها ويترك كلحم على وضم. وهذا باطل، فإن كل واحد من الأعضاء آلة في الدين، فيفوت بفواتها ركن من الدين.
ويدل على ذلك ما ورد في عدة من الأخبار: (أن كل ما يرد على المؤمن من البلاء أو عافية أو نعمة أو بلية، فهو خير له وأصلح في حقه) وما ورد في بعض الأحاديث القدسية: (أن بعض عبادي لا يصلحه إلا الفقر والمرض، فأعطيته ذلك، وبعضهم لا يصلحه إلا الغنى والصحة، فأعطيته ذلك). وبذلك يجمع بين أخبار العافية وأخبار البلاء.