الحجاب الأقرب، فقال: هذا أكبر، فلما ظهر أنه مع عظمته غير خالي عن الهوى في حضيض النقص والانحطاط عن ذروة الكمال، قال:
(لا أحب الآفلين. إني وجهت وجهي...) (26).
فسالك هذا الطريق قد يغتر في الوقوف على بعض هذه الحجب، وربما يغتر بالحجاب الأول، وأول الحجاب بين الله وبين العبد هو قلبه، فإنه أيضا أمر رباني ونور من أنوار الله، تتجلى فيه حقيقة الحق كله، حتى يتسع لجملة العالم ويحيط به وتتجلى فيه صورة الكل، وعند ذلك يشرق نوره إشراقا عظيما، إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه، وهو في أول الأمر كان محجوبا، فإذا تجلى نوره وانكشف فيه جماله بعد إشراق نور الله - تعالى - ربما التفت صاحب القلب إلى القلب، فيرى من جماله الفائق ما يدهشه، فربما يسبق لسانه في الدهشة، فيقول: أنا الحق! فإن لم يتضح له ما وراء ذلك، اغتر به ووقف عليه وهلك، وكان قد اغتر بكوكب صغير من أنوار الحضرة الإلهية، ولم يصل بعد إلى القمر، فضلا عن الشمس، فهو مغرور. وهذا محل الالتباس، إذ المتجلى يلتبس بالمتجلى فيه، كما يلتبس لون ما يتراءى في المرآة فيظن أنه لون المرآة، وكما يلتبس ما في الزجاج بالزجاج فيظن أنه لون الزجاج، كما قيل:
رق الزجاج ورقت الخمر فتشابها وتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قد وكأنما قدح ولا خمر وبهذه العين نظر النصارى إلى المسيح، فرأوا إشراق نور الله قد تلألأ فيه، فغلطوا فيه، كمن يرى كوكبا في مرآة أو في ماء، فيظن أن الكوكب في المرآة أو في الماء، فيمد اليد إليه، فهو مغرور. وأنواع الغرور في طريق السلوك إلى الله كثيرة لا تخفى على أرباب البصيرة.
ثم أكثر المتلبسين بلباس العارفين - مع كذبهم فيما يدعونه، ونقصانهم في طريق السلوك، وجهلهم بحقيقية الأمر، وعدم قطعهم جل المقامات - يتشبهون بالصادقين من العرفاء في زيهم وهيأتهم وآدابهم ومراسمهم وألفاظهم، ظانين أنهم بهذا التشبه يصلون إلى مراتبهم، فهيهات هيهات! إن الوصول إلى درجة