أو على صحته وقوته، ويستبعد مجئ الموت فجأة، ولا يتأمل في أن ذلك غير بعيد ولو سلم بعده فالمرض فجأة غير بعيد، إذ كل مرض إنما يقع فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيدا. ولو تفكر هذا الغافل، وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص، من شباب وشيب وكهولة، ومن شتاء وخريف وصيف وربيع، وليل ونهار، وحضر وسفر، لكان دائما مستشعرا غير غافل عنه، وعظم اشتغاله بالاستعداد له، لكن الجهل بهذه الأمور وحب الدنيا بعثاه على الغفلة وطول الأمل، فهو أبدا يظن أن الموت بين يديه، ولا يقدر نزوله ووقوعه فيه، ويشيع الجنائز ولا يقدر أن تشيع جنازته، لأن هذا قد تكرر عليه، وألفه بتكرر مشاهدة موت غيره. وأما موت نفسه، فلم يألفه ولا يتصور أن يألفه، لأنه لم يقع، وإذا وقع لا يقع دفعة أخرى بعده، فهو الأول وهو الآخر!
وأما حبه لتوابع البقاء: من المال والدار والمراكب والضياع والعقار، فراجع إلى الأنس بها والالتذاذ بها في مدة مديدة، فيثقل على قلبه مفارقتها، فيمنع قلبه عن التفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، إذ كل من كره شيئا يدفعه عن نفسه. والانسان لما كان مشغوفا بالأماني الباطلة، وبالدنيا وشهواتها ولذاتها وعلائقها، فتتمنى نفسه أبدا ما يوافق مراده، ومراده البقاء في الدنيا فلا يزال يتوهمه ويقرره في نفسه، ويقدر توابع البقاء من أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفا على هذا الفكر موقوفا عليه، فيلهو عن ذكر الموت ولا يقدر قربه، فإن خطر له في بعض الأحيان أمر الموت والحاجة إلى الاستعداد له، سوف ووعد نفسه إلى أن يكبر فيتوب.
وإذا كبر أخر التوبة إلى أن يصير شيخا وإذا صار شيخا يؤخرها إلى أن يفرع من عمارة هذه الضيعة أو يرجع من سفر كذا أو يفرغ من تدبير هذا الولد وجهازه وتدبير مسكن له، ولا يزال يسوف ويؤخر إلى أن يخطفه الموت في وقت لا يحتسبه، فتعظم عند ذلك بليته وتطول حسرته، وقد ورد أن أكثر أهل النار صياحهم من سوف، يقولون وا حزناه من سوف! والمسوف المسكين لا يدري إن الذي يدعوه إلى التسويف اليوم هو معه غدا، وإنما يزداد بطول المدة قوة ورسوخا، إذ الخائض في الدنيا