فضلا عن أن تحصل له التخلية والتحلية ومع ذلك يمكن أن يحصل ذلك بالمخالطة مع العلماء وأولي الأخلاق الفاضلة؟ وكيف يجوز أن يقال: أن المخالطة أفضل لمن حصل ما في وسعه وقدرته من العلم والعمل، ووصل إلى مرتبة الابتهاج والالتذاذ بالطاعات والمناجاة، ولم يترتب على مخالطته مع الناس شئ من الفوائد الدينية والدنيوية، بل تترتب عليه المفاسد الكثيرة؟
فالصحيح أن يقال: إن الأفضلية فيهما تختلف بالنظر إلى الأشخاص والأحوال والأزمان والأمكنة. فينبغي أن ينظر إلى كل شخص وحاله، وإلى خليطه وإلى باعث مخالطته وإلى ما يحصل بمخالطته من فوائد المخالطة وما يفوت لأجلها من فوائد العزلة ويوازن بين ذلك، حتى يظهر الأفضل والأرجح.
ولاختلاف ذلك في حق الأشخاص بملاحظة الأحوال والفوائد والآفات، بما يظهر - بعد التأمل - أن الأفضل لبعض الخلق العزلة التامة ولبعضهم المخالطة ولبعضهم الاعتدال في العزلة والمخالطة وبما ذكر يظهر أن الأفضل لمن بلغ مقام الأنس والاستغراق: الخلوة والعزلة إذ لا ريب في أن المخالطة توجب السقوط عن مرتبة الشهود والأنس، ولا يتصور من فوائدها شئ يقاوم ذلك. ولذلك كان المحبون المستأنسون بالله يعتزلون عن الخلق . يؤثرون الخلوة. قال أويس القرني: (ما كنت أرى أحدا يعرف ربه فيأنس بغيره). وقال بعضهم: (إذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس). وقال بعضهم: (سرور المؤمن ولذته في الخلوة بمناجاة ربه) وقال بعض الصالحين: (رأيت في بعض البلاد عابدا خرج من بعض قلل الجبال، فلما رآني تنحى عني وتستر بشجرة، فقلت له: سبحان الله!
أتبخل علي بالنظر إليك؟ فقال: يا هذا! إني قمت في هذا الجبل دهرا طويلا أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا وأهلها فطال في ذلك تعبي وفنى فيه عمري، فسألت الله - تعالى - أن يعطيني ذلك فسكن قلبي عن الاضطراب وألف الوحدة والانفراد، فلما نظرت إليك خفت أن أوقع في الأول فإني أعوذ من شرك برب العالمين وحبيب القانتين ثم صاح وقال: واغماه من طول المكث في الدنيا! ثم حول وجهه عني وقال: سبحان من ذاق قلوب العارفين من لذة الخلوة وحلاوة الانقطاع إليه! ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان وعن الحور